يزور بهاء رفيق الحريري بلده الأم لبنان كل سنة مرة (أو كل سنتين لا فرق). الرجل يحب بلده بلا شك ويريد أن يكون له دور سياسي فيه، وهو دور ما زال يعتقد أنه سُلب منه بعد اغتيال والده عام 2005 وجُيّر لشقيقه الأصغر سناً منه سعد، وأنه آن الأوان ليستعيده بعد انكفاء شقيقه لظروف محلية وعربية قيل وكتب الكثير عنها وباتت معروفة للخاصة والعامة. وإذ يحل الحريري الابن البكر لمؤسس الحريرية السياسية الرئيس الذي طبقت شهرته وإنجازاته الآفاق، في فندق فينيسيا الفخم وليس في قصر أبيه ولا في أحد منازل العائلة أو في منزل يملكه، فإن ذلك يوحي من البداية بأن الإقامة سريعة وليست مستقرة. يعني ذلك أنه زائر وليس مقيماً، وهذا دأبه منذ سنوات. علاقته ببلده وأهله هي علاقة زائر ببلد الزيارة.
تطرح زيارات الابن البكر للحريري الموسمية للبنان مسألة مهمة تتعلق بموقع الطائفة السنية في لبنان ودورها الحالي في ذروة التوتر في فلسطين وعلى الحدود اللبنانية الجنوبية، وكذلك بمستقبلها الذي يتعلق بما يُرسم للمنطقة بأسرها، وهي مسائل تبدو أكبر من أن يتنكّب مسؤوليتها زعيم أو رئيس أو بلد بأسره...
قدم بهاء الحريري نفسه خلال لقاءاته التي لم ترق إلى مستوى الحشد الشعبي ولا إلى مستوى النخب القيادية في الطائفة وجمهور رفيق الحريري مجموعة من العناوين العامة لبرنامج غير واضح الآفاق، لا في طريقة تنفيذه ولا في أدواته، بقيت أفكاره عمومية وغائمة، وإطاره التنظيمي الذي أطلق عليه تسمية "المسار" مجرد تسمية لا جسم لها ولا أطراف. هي مجرد تسمية ـ حتى الآن - للتمايز وإعلان عدم الصلة بتيار "المستقبل".
وعلى كل حال فهي ليست الأولى، فقد أطلق تحت رعايته ما سُمي يوماً "المنتدى" وكان مصيره الزوال.
كل مرة يزور الحريري لبنان يقدم نفسه منقذاً، يستحضر والده الشهيد وإنجازاته ويعلن مواصلة مسيرته، ويعد بمشاريع في بيروت "التي يحبها" وفي عكار والشمال والبقاع والجنوب... هذه المرة أكد أنه يملك مشروعاً وطنياً، لكنه لم يشرحه أو يعلن بنوده. اللهم إذا كان يقصد متابعة مشروع والده. كلام وطني في العموميات عن بناء الوطن وعن التضامن مع أهل الجنوب وعن محاربة الفساد وبناء الدولة على أسس صحيحة.
وبيت القصيد في كل ما قاله الحريري يمكن اختصاره في جملة واحدة رددها: "لا تنازل بعد اليوم عن حقوق الطائفة السنية التي تعاني ظلماً اجتماعياً وتمثيلياً..." وهو ما ركزت عليه الوفود التي زارته أو المناطق التي زارها. وهذه قضية إشكالية كبيرة في ضوء الواقع الذي تعيشه الطائفة من ضياع نتيجة توزع الولاءات وغياب القيادة القادرة على جمعها، وربطاً بأوضاع المنطقة وتزايد النفوذ الإيراني - الشيعي.
لكنّ بين ما أعلنه الحريري والقدرة على تنفيذه أنهاراً وبحاراً ومحيطات، ربما يكون الحريري الابن لم يعايش تجربة والده القاسية والمريرة في الحكم، ومن المؤكد أنه يستسهل المهمة لذلك كبّر الحجر. فهل يدرك رجل الأعمال الشاب أن "المنظومة" أكبر بكثير من طاقته وقدرته وأنها كانت أكبر من أبيه نفسه؟ وبالتأكيد أكبر بكثير من شقيقه سعد. وهل يعتقد أن تجربته الناجحة في إدارة الأعمال وتجميع المليارات يمكن إسقاطها على إدارة دولة شديدة التعقيد مثل لبنان؟
ربما يستسهل بهاء الحريري الوصول إلى السرايا الكبيرة رئيساً للحكومة بعد انكفاء سعد وعدم قدرة أي سياسي سنّي على تزعّم الطائفة، معتبراً في قرارة نفسه أن هذا بات حقاً لآل الحريري، وهو الآن أكبرهم وأغناهم، لكن الواقع لا يلعب لمصلحته، فلا هو بكاريزمية والده وكرمه اللامحدود، ولا هو بجاذبية سعد وقربه من الناس وبإنفاقه كل ثروته على السياسة حتى الإفلاس ربما.
من مفارقات زيارات بهاء الحريري للبنان أنها تعيد الحنين إلى سعد الحريري، كلما أتى بهاء تذكر الحريريون شقيقه الأصغر وتمنوا عودته وأكدوا ولاءهم له باعتباره الوريث السياسي الوحيد لرفيق الحريري. يلتجئ بهاء إلى حضن عمته بهية، لكنها تحتضنه باعتباره ابن رفيق لا أكثر ولا أقل، فيما ابنها أحمد، الأمين العام لتيار المستقبل، يؤكد أن لا زعيم إلا سعد.
اقتحم رفيق الحريري الحياة السياسية اللبنانية بشخصيته القيادية وبدفع سعودي كبير وبثروة هائلة أنفق مئات الملايين منها، وربما أكثر، لتعليم أبناء الطائفة السنية، وكثير من أبناء الطوائف الأخرى، رافعاً من مستوى الحياة درجات إلى الأعلى، وإقامة مشاريع ومؤسسات خيرية وإعلامية وتنموية، وهو ما تبدد مع أزمة سعد المالية.
لبهاء الحريري حرية دخول المعترك السياسي ساعة يريد وكيفما يريد، لكن بكثير من الواقعية والاكتساب!