في مقالة نشرها في صحيفة "هآرتس" (اليسارية) الأسبوع الماضي، انضم المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إلى مجموعة الأصوات الداعية إلى استخدام إسرائيل "السلاح غير التقليدي"، والمقصود السلاح النووي، في حروبها الدائرة في المنطقة للحفاظ على وجودها.
ضمت قائمة الدعاة إلى استخدام "سلاح يوم القيامة"، القائمة التي تستقبل كل يوم أعضاء جدداً، وتتعزز كلما تعمقت أزمات "الدولة" وتفاقمت عثرات الجيش وظهر السؤال المضمر حول مصير الدولة اليهودية وقدرتها على العيش ومواصلة البقاء في محيط أغرقته بالدم، وزراء وأعضاء كنيست (برلمان) ورجال دين ولاعبي كرة قدم ورياضيين وفنانين، وسياسيين في الحكومة والمعارضة..، وها هي تستقبل عبر مقالة مبررة ومفسرة مؤرخاً مشوشاً ومثيراً للجدل، في إضافة نوعية للتعددية الفاشية التي تتمتع بها.
الخلاف الوحيد في القائمة كان على مكان إلقاء القنابل ووجهة طائرات سلاح الجو، أو بمعنى أكثر دقة، على أولوية الأمكنة، إذ يرى بعضهم أن يبدأ الأمر في غزة، بينما ابتعد بعضهم الآخر، مثل موريس وليبرمان، واقترحوا البدء في إيران متذرعين بضيق الوقت.
في الحلقة الثانية من القائمة يذهب إيتمار بن غفير إلى حلول تفصيلية ميدانية ومباشرة وأكثر عملية، مثل حل أزمة اكتظاظ السجون عبر تطبيق قانون الإعدام، أو تطبيق قانون الإعدام عبر التجويع والتعذيب، بينما يخطط بتسلئيل سموتريتش للاستيلاء الكامل على المنطقة "سي" من الضفة الغربية، وتطبيق قوانين الاحتلال على المنطقة "ب"، وتفكيك السلطة الفلسطينية في المنطقة "ألف".
قبل سنوات تنبأ المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس بـ"نهاية الدولة اليهودية" وغرقها في الشرق الأوسط، معتبراً أنها ستخسر "جوهرها" الذي تأسس على "يهوديتها وأخلاقها"، ما يحولها إلى أن تصبح جزءاً من جغرافيا عربية عنيفة لا "تحتفي بالحياة" ولا تتمتع بـ"أخلاق التسامح وقيم الديموقراطية". نبوءة موريس هنا لا تتحدث عن إسرائيل القائمة الآن، ولكن عن "الهوية اليهودية" للدولة كما يراها. هي بحث ملفق عن "مفاهيم أخلاقية" و"قيم ديموقراطية" عبر آليات فاشية وثقافة عنصرية.
في المسيرة المضطربة لبني موريس وتناقضاته وانكفائه من أحد رموز ظاهرة "المؤرخين الجدد" في إسرائيل، مروراً بما يشبه نوبة ندم طويلة على تلك البداية أخذت منحى عنصرياً، لا لبس فيه، الندم الذي تجاوز الاعتذار ليصعد في متواليات فاشية تتعزز مع كل محطة من محطات الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية، من الدعوة إلى تهجير الفلسطينيين ودفعهم شرقاً حتى مقالته الأسبوع الماضي والدعوة إلى ضرب إيران استباقياً بالسلاح النووي.
في مرحلة "الندم" الأولى وجه اللوم إلى ديفيد بن غوريون لأنه "لم ينجز المهمة" ولم يدفع الفلسطينيين خارج حدود فلسطين التاريخية، ما تسبب الآن في الخلل الديموغرافي بين اليهود والعرب لمصلحة الفلسطينيين في الجغرافيا الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وهو "خلل" يواصل نموه ويعكس أثره بقوة على وجود إسرائيل.
تضمنت تلك الفترة انقلاباً جذرياً على أفكاره الأولى التي بنى عليها حضوره وشهرته كمؤرخ وباحث موضوعي في النكبة الفلسطينية، وصل هذا الانقلاب إلى ذروة في مقابلة مع "هآرتس" 2004، اعتبر فيها أن الدولة اليهودية لن تكون نقية بوجود العرب داخل الخط الأخضر، المقصود هنا الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويشكلون ما يقارب خمس السكان، وأن على إسرائيل ترحيلهم شرقاً لتضمن نقاءها وهويتها، بينما في نوبة الندم الحالية يلقي باللوم على بنيامين نتنياهو وبدرجة أقل على جنرالات الجيش الذين ضيعوا فرصة قصف المشروع النووي الإيراني مبكراً بين عامي 2010-2012، حين كان ذلك أكثر سهولة وأقل تكلفة.
ولكنه لا يرى أن الوقت قد تأخر لتنفيذ تلك الضربة بينما إيران لا تزال دولة عتبة نووية، وأن تخطيها لتلك العتبة يعني انتهاء المشروع الصهيوني، معتبراً أن إسرائيل ستتجاوز الإدانات المترتبة على ذلك وحتى العقوبات التي يمكن أن تتسبب فيها ضربة نووية من هذا القبيل.
تبدو سيرة بيني موريس تنفيذاً مثالياً لنبوءته حول "حول نهاية الدولة اليهودية"، نبوءة تنطبق على مسيرته وانحداره من "مؤرخ عادل" قاد حركة مؤرخي الشباب إلى منظّر فاشي للإبادة الجماعية.
ولكن في الذهاب أبعد قليلاً والحفر تحت السطح يمكن طرح سؤال من نوع: ما حاجة دولة مثل إسرائيل لمؤرخ من نوع موريس؟
"دولة" تأسست على مزيج ملفق من الغيبيات والعنصرية والعلمانية الانتقائية والمقابر الجماعية؟ وما حاجتها إلى مؤرخ يثير الغبار ويجعل الأمور أكثر تعقيداً، بينما يمكن أن يقوم بمهمته أي ناشط فاشي وبطرق أكثر مهنية وإخلاصاً للفكرة، كما يفعل بن غفير وسموتريتش أو أي مستعمر من عصابات "تدفيع الثمن" أو"لا فاميليا" أو "لهافا" أو "فتية التلال"، أو حتى عضو مغمور ومتحمس من جمهور فريق "بيتار" لكرة القدم، الذين يذهبون إلى المدرجات ليهتفوا في لازمة جماعية "الموت للعرب".