لم تكد تمرّ زيارة لي إلى منزل الجيران - وكثيراً ما كنت أقضي فترة العصر عندهم خلال طفولتي- من دون أن أسمع والدهم يرفع عقيرته طالباً من زوجته أن تعدّ له وجبة خفيفة تسدّ رمقه.
وبالمثل، ترفع والدتهم عقيرتها لتخبره بأنها مشغولة بأطفالهما السبعة. "تصرّف"، تقول بنفاد صبر، فيذكّرها بكل بساطة بأنه "لا يعرف" كيفية دهن الجبنة على دفتي الخبز لصنع شطيرة، و"لا يعرف" كيفية قلي البيض، وقطعاً "لا يعرف" كيفية تقطيع بعض الخضروات، وخلطها ببعضها بعضاً، لإعداد السلطة.
وكانت إجاباته مقنعة دوماً، فأنا -للأمانة- لم أره مطلقاً في المطبخ، ما كان يحتّم على زوجته أن تنهض مكرهة في كل مرّة لتبتدع له وجبة خفيفة. على الأقل حتى اليوم الذي عاد فيه من رحلة التخييم في الصحراء.
أتذكّر حينما دخل شقيقها حاملاً القدر الضخم، وقال لها كيف أنه لا بدّ من أن صديقاتها يحسدنها على هذا الرجل. ثم راح الشقيق يتغنّى بالرز الذي طبخه زوجها بدرجة الاستواء المثالية، والذبيحة التي سلخها، ثم تبّلها، ثم شواها، والشاي بالحليب الذي حضّره باحتراف أي كافتيريا، وبالخبز الذي أيقظهم برائحته الشهية في الصباح التالي.
لم يكن "يعرف" فحسب، بل كان "شيف".
في زمن باتت تضمحل فيه الفوارق -ولو ببطء حلزوني شديد- بين الأدوار التقليدية للمرأة والرجل، وبين الفروض المناطة بهما، بات يتوجب على بنات حواء الحذر من "لا أعرف" ومشتقاتها، وفتح أعينهن على اتساعها. ركّزن، على الأخطاء المتكرّرة والساذجة في أداء الأعمال المنزلية، أو الإهمال غير المبرّر في رعاية الأبناء، أو التقاعس والتهاون الغريبين في اتباع التعليمات الروتينية والتقيّد بالجداول.
الرجل العصري المتحرّر "لا يعرف" كيف يكون "سي السيد" الشرير البغيض، فيصبح من الأسهل عليه "الإخفاق" مراراً وتكراراً في مشاركة المرأة أعباء إدارة المنزل وتربية الأبناء، خصوصاً بادعاء الجهل، لتغدو "لا أعرف" مفتاحه إلى مغادرة زنزانة المسؤوليات.
أما التكتيك الثاني، فهو التظاهر بعدم القدرة على إتمام المهمات ببراعة المرأة نفسها، أو بسلاستها، أو باتقانها، أو حتى بمنطقها البديهي السليم، ما يُرغم المرأة على "تحرير" نفسها أصلاً من الاضطرار إلى مقاسمته الأعباء، لما في ذلك من استهلاك مضاعف لوقتها وجهدها وراحة بالها، فتفضّل التكفّل بها وحدها.
أراهن أنكم شهدتم نماذج من هذا الرجل. أقصد ذلك الذي يحوّل -مثلاً- أي طلب بالتبضع من السوبرماركت إلى متاهة معقّدة يستحيل أن يجد فيها الصلصة، فتتوب زوجته عن تكليفه هذه المشقة. أو ذلك الذي "يعاني" -مثلاً- لمراقبة رضيع يحبو، فتنتشله الأم، على الأقل لئلا تستمر في مقاطعة ركضها الحثيث خلف أطفالها الآخرين. إنهم رجال يعرقلون أنفسهم بأنفسهم، لتضطر المرأة، أو تؤثر حتى، إكمال سباق الواجبات بالنيابة عنهم.
فهل هو "لا يعرف" حقاً، أم أنكِ أنتِ من لا تعرفين أي حيلة ذكورية تنطلي عليكِ؟