إذا نجح الفرنسيّون، من خلال التفاهمات المبدئية التي أجرتها الأحزاب الرئيسية والقوى السياسية في البلاد، في منع تحالف اليمين المتطرف بقيادة "التجمع الوطني" من الحصول على الأغلبية المطلقة في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية المقررة، غداً الأحد، فهذا يعني أنّ هذا اليمين الذي يعجز عن الوصول إلى الحكومة لن يتمكن من الوصول إلى رئاسة الجمهورية مع نهاية الولاية الثانية للرئيس إيمانويل ماكرون في أيار( مايو) 2017، لأنّ السيناريو الذي يتم تجريبه، حالياً، في المرحلة الأخيرة من هذه الانتخابات سوف يتبلور أكثر ويتم اعتماده في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وتفيد آخر استطلاعات للرأي جرى نشرها في فرنسا، قبل بدء سريان مرحلة "الصمت الانتخابي"، بأنّ تفاهم المعسكر الرئاسي مع "الجبهة الشعبية" اليسارية، أدّى إلى انسحاب مجموعة واسعة من مرشحيهما من خوض المعركة الانتخابية في الدورة الثانية، حتى لا تتشتت أصوات المقترعين فيتمكن مرشحو "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن من النجاح وتحقيق أغلبية مطلقة في الجمعية العمومية، ما يفرض على الرئاسة والمؤسسات والشعب، أوّل حكومة يشكلها اليمين المتطرف وتكون برئاسة "ربيب لوبن"، جوردان بارديلا (28 عاماً).
وإذا ما تطابق التصويت الذي سترتفع نسبته في الدورة الثانية عن الدورة الأولى - على رغم تاريخية نسبة المشاركة فيها - فهذا يعني أنّ اليمين المتطرف في فرنسا لن يتمكن من الوصول إلى الحكم في المستقبل القريب، حتى لو تفوّق شعبياً على غيره من الأحزاب.
وقد أظهرت النقاشات التي احتدمت في فرنسا، منذ أغلقت صناديق الاقتراع الخاصة بالانتخابات الأوروبية، أنّ اليمين المتطرف، ولو حصد ثلث أصوات المقترعين الفرنسيين، إلّا أنّه يثير مخاوف حادة لدى ثلثي الفرنسيين، بمن فيهم هؤلاء الذين لا يتكبدون عناء الانتقال إلى مراكز الاقتراع، على رغم أنّها متاخمة لأماكن سكنهم.
مشكلة "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن، أنّه، على رغم الماء الكثير الذي وضعه في خمره، يفتقد المصداقية، بفعل التجربة التاريخية التي انبثق منها، من جهة، وبفعل قدرته على التملص من وعوده التي يتقدم فيها منسوب الشعبوية على منسوب العلم و"العقيدة"، من جهة أخرى.
وإذا ما تمّ ركن جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا الأبيّة" جانباً، يبدو واضحاً أنّ جميع الأحزاب، سواء أكانت في "المعسكر الرئاسي" الذي ضعف كثيراً أم في اليمين واليسار المعتدلين، تتقاسم الرؤية نفسها إلى فرنسا ودورها، ولكنّها تختلف على السلطة والمناصب.
وهذا التيّار "المتوافق" أثبت، مراراً وتكراراً، أنّه يمكن أن يتصارع، بقوة، ولكن عندما يصل إلى حافة اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي، يتراجع إلى هامش التفاهم على توحيد الجهود.
وانطلاقاً من فهمه العميق لهذا "التيّار التوافقي"، غامر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فحلّ، في ضوء نتائج الانتخابات الأوروبية التي حلّ فيها "التجمع الوطني" في المرتبة الأولى، الجمعية العمومية، ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
الخطأ "القاتل" في حسابات ماكرون لم يكمن في استخفافه بالأرقام التي نالها "التجمع الوطني" في الانتخابات الأوروبية، بل في عدم توقعه أن يتمكن اليسار الفرنسي، وبسرعة فائقة، من توحيد صفوفه، باعتبار أنّ هناك مشكلة كبيرة بين غالبية القوى اليسارية يتقدمها نجم الانتخابات الأوروبية رافاييل غلوكسمان، من جهة، وجان لوك ميلونشون، من جهة أخرى.
وهذا يعني أن ماكرون كان يعتقد أنّه سوف يكون هو الرمز الذي سيقود فرنسا إلى مواجهة كاسحة مع اليمين المتطرف. لقد أخطأ في الحساب. لم يُدرك أنّه أصبح، لألف سبب وسبب، عبئاً!
ولكنّ هذا الخطأ في الحساب الرئاسي تمّ تداركه جزئياً في الاستعداد للدورة الثانية، إذ وجد اليسار الفرنسي نفسه مضطراً إلى عقد تفاهمات مع "المعسكر الرئاسي"، بعد تحييد رمزية ماكرون وثبوت ضعفه، من أجل وضع عوائق حقيقية تقطع الطريق على اليمين المتطرف وتحول دون تمكينه من حصد أغلبية مطلقة في الجمعية العمومية. عملية كانت تبدو سهلة، لو استمرت المعركة في ظل تشتت المقترعين على مرشحين مشتتين.
ولولا ما يسمّى بـ"العائق الجمهوري" لكان اليمين المتطرف وصل إلى السلطة في فرنسا، حتى عندما كان في أحلك اتجاهاته، بقيادة جان ماري لوبن.
قد لا يفهم كثيرون أسباب هذا التصدي الدائم لليمين المتطرف، لأنّهم غير معنيين بالخلفيات الوطنية المتشددة التي كانت قد أوصلت أوروبا إلى حربين عالميتين في القرن العشرين. بالنسبة إلى الأنتلجنسيا الأوروبية، فإنّ التهاون مع الاتجاهات الوطنية الحادة التي لا تأخذ مصلحة الجماعات الأوروبية كلها في الاعتبار، من شأنه أن يُحيي الخلافات القديمة ويدخل الدول في منافسات خطرة، تتدحرج، في ضوئها، رويداً رويداً، إلى الحرب. وفي هذا السياق، لن يتفاجأ هؤلاء إن اطلعوا على التقارير التي تفيد بأنّ جورجيا ميلوني لن تكون سعيدة مطلقاً بلمعان نجم مارين لوبن، لأنّ أهداف اليمين المتطرف الفرنسي تتعارض، في كثير من المفاصل الإستراتيجية، مع مصالح اليمين المتطرّف في إيطاليا!
اليمين المتطرّف لا يناقش علناً هذه المواضيع، ولكنّه في خلفية حديثه مع الفقراء والمهمشين والمتضررين والعنفيّين، لا يختلف في أطروحاته عن تلك التي مكنت يوماً هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا، من السيطرة والقيادة والتحكم.
وليس عن عبث أنّه في زمن صعوده في معظم نواحي فرنسا، عجز اليمين المتطرف في الدورة الأولى وسوف يثبت هذا العجز في الدورة الثانية، من حصد مقعد واحد من واحد وعشرين مقعداً مخصصاً للعاصمة الفرنسية باريس.