الفوز الساحق لحزب العمال يؤشر قبل كل شيء إلى رغبة البريطانيين في التغيير، بعد 14 عاماً من حكم المحافظين، شهدت أحداثاً مفصلية، أبرزها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية.
ترك كل حدث من هذه الأحداث تأثيرات سلبية واسعة في الاقتصاد البريطاني، الذي شهد في السنوات الأخيرة معدلات تضخم لم يعرفها منذ عقود، قبل أن ينخفض مؤخّراً. وبقي لـ"بريكست" الأثر البالغ في تراجع الاقتصاد، قبل أن تفاقم إغلاقات كورونا الأزمة، معطوفة على إجراءات شعبوية اتخذها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، ثم أتى ارتفاع الأسعار بسبب النزاع الأوكراني، إلى تنكّب لندن دوراً محورياً في دعم كييف تسليحياً ومالياً.
وكثيراً ما عانى حزب المحافظين من الصراعات وعصفت به الفضائح. وفاجأ رئيس الوزراء ريشي سوناك الجميع عندما أعلن عن انتخابات مبكرة في 4 تموز (يوليو)، في قرار لا يقلّ كارثية عن قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 9 حزيران (يونيو) في إثر الهزيمة المدوية لحزب النهضة الذي يتزعمه في الانتخابات الأوروبية، والصعود الصاروخي للتجمع الوطني المتطرّف برئاسة مارين لوبن.
أراد سوناك أن يُحدث صدمة سياسية في بريطانيا، تحدّ من حجم الخسائر التي كانت استطلاعات الرأي تتنبأ بها منذ أشهر. لكن النتائج أتت عكسية، مثلما أتت نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية عكسية، وأكّدت انقسام فرنسا بين اليمين المتطرّف واليسار المتطرّف، وتضاؤل الوسطيين إلى حجم سيكونون مجبورين معه على التعايش مع الأحزاب المتطرّفة.
وعلى الرغم من الوعود التي أغدقها المحافظون، بمجموعة من التخفيضات الضريبية وسياسة الهجرة المتشددة، فإن استطلاعات الرأي لم تتحرك في اتجاههم. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة "إيبسوس" في الأسبوع الماضي، أن سوناك (44 عاماً) حصل على أعلى نسبة رفض لأي رئيس وزراء يحاول إعادة انتخابه منذ 50 عاماً، حيث يعتقد 75 في المئة من الناخبين أنه لا يقوم بعمل جيد.
ومن الأسباب الرئيسية التي ألحقت الهزيمة المدوية بالمحافظين، أن الناخبين أرادوا التغيير. ولم يسبق لحزب سياسي بريطاني أن فاز بخمس ولايات متتالية. ومعلوم أن السياسة البريطانية تميل عادة إلى التداول، مع بقاء الحزبين الرئيسيين في الحكم لفترة تتراوح بين 10 أعوام و15 عاماً قبل أن يقترع الناخبون للمعارضة. وحكم المحافظون من 1980 إلى 1997، وحكم العمال من 1997 إلى 2010، ويحكم المحافظون مذاك.
وفي معرض تقويمها أسباب هزيمة المحافظين، كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أن الإجراءات التي اتخذتها حكومات المحافظين "لحماية الاقتصاد من صدمتي الوباء والحرب، أدّت إلى زيادة الإنفاق الحكومي والضرائب، ووصلت الضرائب في بريطانيا إلى أعلى مستوياتها منذ الأربعينيات. وارتفعت الهجرة إلى مستويات قياسية. وهناك 7.5 ملايين شخص ينتظرون العلاج في الخدمة الصحية الوطنية التي تمولها الدولة. وانخفض معدل التضخم من 11 إلى 2 في المئة، لكن أسعار الفائدة لم يتمّ تخفيضها بشكل ملموس بعد".
صحيح أن حزب العمال حصل على تفويض كاسح من الناخبين، إلّا أن التحدّيات التي ستواجه رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر، ستكون على قدر هذا التفويض، بينما الناس ينتظرون تحسناً سريعاً في أحوالهم المعيشية.
ولا تقلّ خطورة محاولة سياسيين شعبويين عادوا إلى الظهور، أمثال نايجل فراج، اللعب على وتر الهجرة لكسب تعاطف الناس، وتسليط الضوء على هذه الناحية، بينما يشهد الشعبويون صعوداً في العديد من دول أوروبا، والأنظار تتجّه إلى تزايد فرص الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض.
أمام ستارمر مهمّة صعبة على طريق استعادة ثقة البريطانيين بسياسييهم، بعد الفوضى التي خلّفتها الحقبة المحافظة.