بين اليمين المتطرف الفرنسي وروسيا بوتين علاقات عميقة تعود إلى زمن بعيد، مشتركها الأساسي الرؤية المحافظة. وهي علاقة لا يخفيها الطرفان. فبعد ساعات من ظهور نتائج الجولة الأولى للانتخابات التشريعية في فرنسا، هنأت السلطات الروسية حزب التجمع الوطني علناً بالنصر غير المكتمل الذي حققه، فيما غرد أندريه ناستاسين، نائب مدير إدارة الإعلام والصحافة بالكرملين، قائلاً: "الشعب الفرنسي يسعى إلى سياسة خارجية ذات سيادة تخدم مصالحه الوطنية والقطيعة مع إملاءات واشنطن وبروكسل"، ضمن سياسة روسية تستثمر منذ سنوات في اليمين القومي الشعبوي في كل مكان، ولا سيما في أوروبا، حيث الحرب لا تزال مستعرةً بينها وبين أوكرانيا ومن ورائها الغرب الليبرالي.
تتميز العلاقات بين اليمين المتطرف الفرنسي وفلاديمير بوتين بالتقارب الأيديولوجي والدعم السياسي المتبادل والتفاعلات المالية والدبلوماسية. يتقاسم الطرفان رؤية مشتركة ذات منزع قومي وسيادي، من خلال دعوات محمومة للحفاظ على الهويات الوطنية، والحد من الهجرة، وتعزيز سلطة الدولة، إلى تقدير مبالغ فيه للقيم التقليدية والمحافظة. فهما يقدمان أنفسهم كمدافعين عن الأسرة التقليدية وضد حقوق الأقليات، وضد الحريات على نحو عام. وقد أعرب قادة اليمين المتطرف، وخاصة مارين لوبن، مراراً عن إعجابهم بالرئيس بوتين وأسلوبه الاستبدادي في الحكم. وقد تبلور هذا التقارب الفكري من خلال توطيد العلاقات السياسية.
في عام 2017، استقبل بوتين مارين لوبن في الكرملين، وهو الاجتماع الذي نُشر على نطاق واسع وفُسّر على أنه علامة على الدعم السياسي. وشدد بوتين خلال هذا الاجتماع على أن روسيا لا تتدخل في الانتخابات الفرنسية، لكن من المهم الحفاظ على العلاقات مع مختلف الجهات الفاعلة. في المقابل، تبنى حزب الجبهة الوطنية بانتظام مواقف تتماشى مع مواقف روسيا، ولا سيما من خلال انتقاد العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي بعد ضم شبه جزيرة القرم. كما أعربت لوبن عن دعمها للتدخل الروسي في سوريا، معتبرة بوتين "شريكاً رئيسياً في الحرب ضد الإرهاب".
بموازاة هذا التطابق الفكري والسياسي، كان الكرملين داعماً أساسياً للحزب اليميني المتطرف عملياً. فقد تلقت الجبهة الوطنية قروضاً من البنوك الروسية، بما في ذلك قرض بقيمة 9 ملايين يورو في عام 2014 من البنك التشيكي الروسي. وأثار التمويل اتهامات بأن روسيا تسعى للتأثير على السياسة الفرنسية. وعلى الرغم من أن الجبهة الوطنية بررت هذه القروض بالادعاء بأن البنوك الفرنسية رفضت تمويلها، إلا أن هذه العلاقات المالية عززت الروابط بين الجبهة وموسكو.
وعلى الرغم من أن الحرب الأوكرانية جعلت اليمين المتطرف يتراجع قليلاً عن دعمه الواسع لبوتين، فقد حاول حزب التجمع الوطني تحسين صورته في مواجهة موسكو. وأكد جوردان بارديلا، رئيس الحزب، استقلاله عن السلطة الروسية لأن الموجة الشعبية كانت رافضة بقوة لغزو أوكرانيا، إلا أن نحو عشرة مرشحين من الحزب في الانتخابات التشريعية شاركوا في بعثات مراقبة الانتخابات في شبه جزيرة القرم ودونباس، بناءً على دعوة من السلطات الروسية وعلى حسابها. وفي تقريرها لعام 2022، قدرت لجنة التحقيق البرلمانية في التدخل الأجنبي أن هذه الرحلات كانت ''إحدى الطرق التي يفضلها حزب التجمع الوطني لإظهار دعمه لنظام بوتين، وأن السلطات الروسية ربما قامت بذلك لتوظيف شرعية النواب الأوروبيين لإثبات شرعية العملية الانتخابية".
تؤشر هذه العلاقات القوية إلى إمكانية حدوث تحول جذري في مستوى السياسة الخارجية الفرنسية تجاه روسيا، في حال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، حتى في الأمد المتوسط، فمن المتوقع أن تحاول أي حكومة فرنسية – يقودها اليمين المتطرف أو يكون جزءاً منها - رفع العقوبات المفروضة على روسيا أو تخفيفها، إذ دعا حزب الجبهة الوطنية إلى اتباع نهج أكثر واقعية وأقل عقابية تجاه موسكو، بحجة أن العقوبات تأتي بنتائج عكسية وتضر بالمصالح الاقتصادية الفرنسية.
وتحت تأثير الجبهة الوطنية، يمكن فرنسا أن تسعى إلى تعزيز تعاونها مع روسيا في مختلف المجالات، بما في ذلك مكافحة الإرهاب وأمن الطاقة والشؤون العسكرية. ويمكن أن يشمل ذلك اتفاقيات تجارية، ومناورات عسكرية مشتركة، وحواراً سياسياً أوثق.
في المقابل، يمكن هذا السيناريو أن يؤدي إلى توترات مع حلفاء فرنسا التقليديين، خصوصاً داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، حيث تنظر العديد من الدول الأوروبية، خصوصاً تلك الموجودة في أوروبا الشرقية، إلى روسيا باعتبارها تهديداً، ويمكن أن تنظر نظرةً قاتمةً إلى السياسة الفرنسية الأكثر تصالحية تجاه موسكو. في الوقت نفسه، ممكن أن يؤدي صعود اليمين المتطرف في فرنسا إلى تفاقم الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسة التي ينبغي اعتمادها تجاه روسيا. ذلك أن العلاقات بين اليمين المتطرف الفرنسي وبوتين تشكل في الأساس جزءاً من استراتيجية روسية أوسع تهدف إلى تعزيز نفوذها في أوروبا، من خلال دعم الأحزاب القومية والمتشككة في الوحدة الأوروبية. ومن الممكن أن تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تفتيت الاتحاد الأوروبي وإضعاف تماسكه خلال السنوات المقبلة.