عندما سُئل المرجع المعروف في آليات الانتخابات البريطانية وتاريخها البروفسور جون كورتيس، عن رأيه في الانتصار الساحق الذي حققه كير ستارمر في 4 تموز (يوليو) الجاري، قال: "تبدو هذه انتخابات خسرها المحافظون أكثر منها اقتراعاً ربحه العمال".
عدد قليل من الناخبين، قدم السلطة على طبق من ذهب إلى حزب العمال، ليس بسبب إعجابهم به، بل نظراً إلى رفضهم التام حزب المحافظين، وانقسام الأصوات في صفوف اليمين التي ذهبت حصة كبيرة منها إلى حزب "ريفورم يوكي" (إصلاح المملكة المتحدة) ما أدى إلى انهيار الحزب الحاكم في وجه المدّ العمالي الطاغي.
هذا لا يقلل من أهمية الفوز، ولكنه قد يثير تساؤلات حول الديموقراطية البريطانية. ولا يتحمل العمال مسؤولية المفارقات التي ينطوي عليها فوزهم المذهل، وهي كثيرة. فنظام الأغلبية المطلقة، كان "بطل" الانتخابات ومهندس نتائجها الغريبة، لأن الانتصار فيه يُحسب على أساس الدوائر التي يتفاوت عدد الناخبين فيها ويفوز في كل منها صاحب العدد الأعلى من الأصوات. والحزب الذي يحصد العدد الأكبر من الدوائر، وليس الأصوات، على المستوى الوطني، هو من يشكل الحكومة.
والحال أن انتصار العمال أو هزيمة المحافظين لم يكن مفاجئاً، بل المفاجئ هو حجم كل منهما. كما كانت التشكيلة الوزارية الجديدة، التي أنتجتها هذه الانتخابات مدهشة بطريقتها المختلفة. فمن كان يتوقع أن يعين كير ستارمر، ريتشارد هيرمر (55 عاماً) نائباً عاماً، عضواً في مجلس الوزراء، وهو المحامي اليهودي الكبير الذي انتقد إسرائيل مراراً، وشجب استعمالها الغذاء والماء والكهرباء أسلحة في حربها ضد غزة، في تناقض مباشر مع موقف الزعيم العمالي؟
في المحصلة، عاد حزب العمال إلى الحكم بعدما ظل 14 عاماً على مقاعد المعارضة، وفي جعبته 412 مقعداً فاز بها بموجب نسبة من الأصوات بلغت 33 في المئة. أما حزب المحافظين، فحصل على 121 مقعداً مع أن نسبة حصته من الأصوات كانت 24 في المئة!
وتعرض الأخير إلى أشنع هزيمة في حياته بخسارة 252 مقعداً، في ليل 4 و5 تموز (يوليو) الجاري الطويل الذي تدحرجت فيها رؤوس 13 من وزرائه وعدد من قياديه الكبار في طليعتهم ليز تراس رئيسة الوزراء السابقة. وفقد مقاعده في ويلز واسكتلندا، وهو أصلاً غير موجود في إيرلندا الشمالية، ما يعني أنه لم يعد حاضراً على امتداد الجغرافيا البريطانية وصار الآن إنكليزياً فحسب.
والعجيب أن حصة العمال من الأصوات هذه المرة أقل بنحو مليون صوت منها في الانتخابات السابقة التي خسرها بقيادة جيرمي كوربين في 2019. مع ذلك فإن مقاعده في مجلس العموم زادت 211 مقعداً!
وتثير الاستغراب حصص أصوات أحزاب أخرى لا تتناسب على الإطلاق مع المقاعد التي تحتلها في البرلمان. مثلاً "الديموقراطيون الأحرار" فاز بـ71 مقعداً مع أن نسبة حصته من الأصوات كانت 12 في المئة، بينما حصل "إصلاح المملكة المتحدة" على 5 مقاعد مقابل حصة من الأصوات قدرها 14 في المئة! وظهور هذا الحزب الأخير قسّم الأصوات على الضفة اليمنى للطيف السياسي، ما حرم عشرات المرشحين المحافظين من الفوز لأنه خطف قدراً كافياً من الأصوات منهم.
وإذ برزت قوى جديدة مثل "الإصلاح" اليميني المتشدد، فقد اضمحلت أخرى حتى كادت تمّحي معها. مثلاً، الحزب القومي الأسكتلندي الذي لا يزال يحكم اسكتلندا، خسر 38 مقعداً. كسره الفساد وشوّه سمعة قادته، فعاقبه الاسكتلنديون شر عقاب، وعادوا إلى حضن العمال حيث كانوا على الدوام تاريخياً. مقاعده الـ9 المتبقية ستجعله هامشياً، بعدما كان الحزب الثالث في مجلس العموم، ولطالما انعقدت عليه الآمال لإسماع صوت اليسار في القضايا الكبرى كحرب غزة. ومع تلاشيه، سيخبو أثر محاولاته المستمرة لانتزاع استقلال اسكتلندا، وستتعزز بالتالي وحدة المملكة ومتانتها.
وفقد حزب "الوحدويين الديموقراطيين" في إيرلندا الشمالية، الذي دعم اليمين المتشدد في حزب المحافظين، 3 من أصل 8 مقاعد. واحتفظ منافسه "شين فين" بمقاعده السبعة، ما يجعله صاحب العدد الأكبر من النواب في الإقليم، والمؤهل أكثر مما مضى للعمل على بلوغ هدفه التاريخي إعادة توحيد شطري جزيرة إيرلندا.
في هذه الأثناء، يتجه حزب المحافظين إلى مزيد من التشرذم، فقد بدأ التراشق بالاتهامات بين أقطابه. وأخذ جناح اليمين المتنامي بشخصياته المتغطرسة المتهمة بالعنصرية والفشل في التعامل مع الملفات التي كُلفت إدارتها، من أمثال وزيرتي الداخلية السابقتين بريتي باتيل وسويلا برافرمان، يحدث المزيد من الضجيج استعداداً لمحاولة خطف الزعامة. في هذه الأثناء، يحاول المعتدلون كديفيد كاميرون ووزير الداخلية السابق ومؤيد البريكست بحماسة ذات يوم جيمس كليفرلي، منع انجراف حزبهم في تيار الشعبوية والتطرف والتفكير بمغازلة نايجل فارّاج.
في المقابل، مال حزب العمال إلى الوسط ويمين الوسط، سعياً وراء السلطة. إلا أن جناحه اليساري الذي تلقى ضربات موجعة منذ وصول ستارمر إلى الزعامة قبل أربع سنوات، أثبت أنه ما زال قوة لا يمكن تجاهلها. فقد أعيد انتخاب قيادييه المخضرمين بحصة أكبر من الأصوات، وبرز من صفوفه شباب قد يكون لهم مستقبل في مجلس العموم.
والمؤشر الأهم إلى قوة اليسار هو احتفاظ كوربين بمقعده، إذ ترشح كمستقل وهزم مرشح ستارمر بفارق 8 آلاف صوت. وسيضم صوته إلى نواب كتلة "الصوت المسلم" الأربعة، للدفاع عن الحق الفلسطيني الذي صار أنصاره في مجلس العموم الجديد مساوين من حيث العدد لنواب كل من حزبي "إصلاح المملكة المتحدة" والوحدويين الديموقراطيين". وعلى رغم تحفّظ البعض على كيفية عمل ناشطين مسلمين، فقد نجحوا في حشد ناخبي الكتلة السكانية المؤلفة من 4 ملايين نسمة واستثمارها لإنتاج فعل سياسي قد يكون مؤثراً إذا أتقن النواب الأربعة بسرعة اللعبة البرلمانية.