تعرف تركيا أن جبل سنجار صار مقراً لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تنظيماً إرهابياً يهدد أمنها القومي واستقرار العيش فيها. في المقابل تعرف الحكومة العراقية أن انتشار مقاتلي الحزب في تلك المنطقة يمنع أهاليها المهجرين منذ عشر سنوات (حين احتل تنظيم "داعش" الموصل وضواحيها عام 2014) من العودة إلى بيوتهم التي ربما قد تكون مُحيت. تقوم القوات التركية بين حين وآخر بالإغارة على سنجار مستهدفة مقار الحزب المذكور ومعسكراته ومخازن أسلحته، ولو لم تكن هناك رعاية له من الحزب الديموقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني لما استطاع التسلل إلى جبل سنجار واحتلاله. ولكن ذلك لم يتم إلا بالاتفاق مع الميليشيات الشيعية التي سبق لها أن اعتبرت أجزاء من الجبل من ممتلكاتها.
هنا تتضح صورة تواطؤ بين طرفين. أحدهما هو حزب بارزاني الذي هو على علاقة حسنة مع تركيا قائمة على تصدير النفط بطريقة غير قانونية، والثاني تمثله ميليشيات تنتسب إلى الحشد الشعبي الذي يُفترض أنه مؤسسة عسكرية خاضعة لأوامر رئيس الوزراء العراقي الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
في كل الأحوال، فإن سنجار ليس مشكلة تركية، بل هو مشكلة عراقية خالصة، حاول الطرفان، العربي ممثلاً بحكومة بغداد، والكردي ممثلاً بحكومة أربيل، أن يهربا من استحقاقاتها من خلال اتفاق لم يكن الهدف منه إعادة النازحين إلى بيوتهم. كان الهدف تطبيع الأوضاع والحيلولة دون وقوع احتكاك بين ميليشيات الحشد الشعبي والميليشيا الكردية، البيشمركة. أما نازحو سنجار فإنهم ظلوا على الهامش.
من قوة تحرير إلى قوة احتلال
خطف نازحو سنجار الأنظار بسبب نادية مراد، وهي ابنتهم التي نالت جائزة نوبل للسلام عام 2018 بعدما زارت إسرائيل قبلها بسنة. غير أن كل ذلك البريق سرعان ما خفت. من المؤكد أن مسألة النزوح تخطت مُهجّري سنجار لتكون مسألة وطنية. هناك حوالي مليوني نازح في العراق لا يزالون غير قادرين على العودة إلى بيوتهم في الموصل وفي غرب العراق وشرقه، رغم أن مدنهم كانت قد حُرّرت من احتلال تنظيم "داعش" عام 2017. لم يعد النازحون إلى مدنهم لأن القوة التي ادعت أنها حررت تلك المدن وجدت أن من حقها أن تستولي عليها وتعتبرها جزءاً من ممتلكاتها. أما الولايات المتحدة التي لولا ما ألحقته قواتها الجوية من خراب بالجزء التاريخي من الموصل لكان تنظيم "داعش" لا يزال مسيطراً على ثلثي الأراضي العراقية، فإنها أدارت ظهرها وتركت ميليشيات الحشد الشعبي والميليشيا الكردية تتقاسم التركة المحررة التي هي عبارة عن أرض بلا شعب وستظل كذلك في ظل استمرار منظمات الإغاثة الدولية ووزارة الهجرة والمهجرين العراقية في توفير الخيام وصناديق الطعام المعلب.
ليست هناك إحصائيات لعدد الموتى أو الأطفال والمراهقين المشردين والأميين أو الشباب العاطلين من العمل أو الجرائم التي تُرتكب في مجتمع، صارت المؤسسات الحكومية مع الوقت عاجزة عن فهمه وهي تدرك فشلها في عملية اندماجه المجتمعي ما دام محروماً من استعادة حقه في الإقامة في مدنه.
معادلات إقليمية على جسد العراق
النازحون العراقيون شعب معلق بين الأرض والسماء. ولكن لماذا تعجز الحكومة العراقية عن طرد تنظيمات حزب العمال الكردستاني وهي تتألف من مقاتلين أجانب يحملون الجنسية التركية؟ أولاً لأن سنجار تشكل واحدة من المناطق المتنازع عليها بحسب الدستور الجديد بين العراق وجارته الدولة الكردية غير المعلنة رسمياً حتى الآن. وثانياً لأن الميليشيات الشيعية تتقاسم النفوذ مع البيشمركة في تلك المنطقة، وثالثاً وهو الأهم لأن الولايات المتحدة لا ترغب في أن تُترك تركيا من غير ضغوط جارحة على المستوى القومي. فرغم أن تركيا هي عضو في الناتو، غير أن هناك أطرافاً عديدة في المعسكر الغربي ومنها الولايات المتحدة لا تطمئن إلى مستقبل العلاقة بها. وهو ما يدفع العراق وسوريا ثمنه. بالنسبة إلى العراق فإن حزب العمال الكردستاني كان قد تمدد في الأراضي العراقية بحماية حكومة أربيل التي يتزعمها الحزب الديموقراطي الكردستاني منذ أكثر من عشرين سنة، في وقت كانت المنطقة الكردية شمال العراق تحظى بحماية جوية أميركية. لم يتسلل مقاتلو حزب العمال إلى كردستان العراق بعد الاحتلال بل سبقوه بسنوات. وكان ذلك بمعرفة أميركية، بل بتدبير أميركي. هناك رؤية سياسية غربية كانت قد رسمت خرائط لمعالات إقليمية كان للعراق فيها الحصة الكبرى. ومن المؤلم فعلاً أن لا يكون لحقوق الإنسان حضور في مواجهة تلك الخرائط. لقد لعب الحزب الديموقراطي الكردستاني دوراً مهماً في التمهيد لغزو العراق، غير أن دوره في مرحلة ما بعد الغزو كان هو الأخطر على المستوى الإقليمي.
وطن صار مُلكاً للميليشيات
من المستبعد أن تضع الحكومة العراقية نهاية لمأساة النازحين ممّن صارت مواطنتهم مؤجلة بحكم الواقع الذي فرضته ميليشيات ذات امتدادات إقليمية. وليس من باب المبالغة القول إن أي مسؤول عراقي، وصولاً إلى رئيس الحكومة، لن يتمكن من الوصول إلى مناطق استولت عليها الميليشيات واعتبرتها خطاً دفاعياً عن الجمهورية الإسلامية، كما هي الحال في منطقة جرف الصخر التي تم تغيير اسمها من قبل الحشد الشعبي إلى جرف النصر. من خلال الاسم الجديد يمكن الوصول إلى حقيقة ما جرى. فالنصر الذي يُفترض أنه قد تحقق بهزيمة تنظيم "داعش" كان في حقيقته نصراً على سكان المنطقة الذين فقدوا الحق في العودة إلى بيوتهم بسبب شبهات طائفية. ولأن الحكومة العراقية لن تقوى على الصدام مع الميليشيات فإنها ستلجأ إلى تبسيط المسألة من خلال تقديم المساعدات الإغاثية للنازحين في خيامهم. ذلك أشبه بصناعة وطن بديل داخل الوطن الذي صار مُلكاً للميليشيات.