النهار

فوز بزشكيان "صدفة" أم نتيجة صراعات المحافظين؟
عبدالوهاب بدرخان
المصدر: النهار العربي
"أنا محافظ إصلاحي"... بهذا وصف مسعود بزشكيان نفسه عندما عرض برنامجه أمام "جبهة الإصلاح"، وهذا ما عبّر عنه في مختلف المناظرات.
فوز بزشكيان "صدفة" أم نتيجة صراعات المحافظين؟
الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان.
A+   A-
 
"أنا محافظ إصلاحي"... بهذا وصف مسعود بزشكيان نفسه عندما عرض برنامجه أمام "جبهة الإصلاح"، وهذا ما عبّر عنه في مختلف المناظرات. ربما يكون هذا التعريف هو ما جعله مقبولاً لدى محافظين "معتدلين" فضّلوا اعطاءه أصواتهم، على منحها الى منافسه سعيد جليلي، الذي يوصف بـ "المحافظ المتشدد" وأثار بعض مواقفه وأفكاره انتقادات أطراف عدة، حتى في المحيط القريب من المرشد علي خامنئي. لا يرفض هؤلاء بالضرورة ما يطرحه جليلي من مواقف عدائية للولايات المتحدة والغرب بل كانوا يرفضون أسلوبه، فالمرشد بالنسبة اليهم هو من يحدّد سقوف العداء والتطرّف، ولا مزايدة عليه. ولعلّهم لم يحبّذوا وجود جليلي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إذ ليس سرّاً أن محمد باقر قاليباف كان خيارهم، ويُعتبر أيضاً "مرشح الحرس الثوري"، لكن فشله منذ الجولة الأولى عكس من جهة موقفاً سلبياً إزاء "الحرس" غير متوقّع من الناخبين، ومن جهة أخرى بروز الصراعات الكامنة بين أجنحة المحافظين بعد غياب الراحل إبراهيم رئيسي، الذي قيل أنه استطاع لعب دور في تهدئتها.
 
هل يقود ذلك الى القول إن فوز بزشكيان مجرد "صُدفة" كما يراها العديد من المحافظين، وهل يكون نتيجة خطأ في حسابات مجلس صيانة الدستور الذي لم يجد لديه "المؤهلات الكافية" لقبول ترشيحه عام 2021 ضد رئيسي ثم أعاد اكتشاف تلك "المؤهلات" في 2024 وقبل ترشيحه بعدما قارن بينه وبين مرشّحَين معروفَين "أكثر اصلاحية" منه؟ أسئلة كثيرة تُطرح، ومثلها لا يزال مطروحاً خصوصاً في صفوف المحافظين حول ظروف مقتل رئيسي ومدى ارتباطه بأنه كان مرشحاً جدّياً للمرشدية. لكن، بعيداً عن التكهّنات والافتراضات التي يُتوقّع أن تظهر أكثر في صراعات المحافظين، استطاع بزشكيان خلال حملته أن يثبت وجوده وأن يحرّك اثنين من أقطاب الإصلاحيين، الرئيسين السابقين محمد خاتمي وحسن روحاني، اللذين أيداه ودعماه، وإن لم يتمكّنا من استنهاض قواعد الإصلاحيين، لأن هؤلاء فقدوا الأمل في أي بارقة تغيير، ومجّوا لعبة التناوب (بين الاصلاحي والمتشدّد) التي اصطنعها النظام لاجتذابهم الى مربعه، لذا ردّوا بهاشتاغ "سِيرْك" والدعوة الى مقاطعة التصويت.
 
لم يكن بزشكيان شخصاً مجهولاً من جانب الإصلاحيين وشرائح كبيرة من المجتمع، بل ان نزاهته وعمله كطبيب جرّاح قلب واهتمامه بالقطاع الصحّي وسيرته العائلية أكسبته تعاطفاً شعبياً واسعاً، ثمّ أن عدم انغماسه في العمل السياسي لم يمنعه من ابداء مواقف معاكسة للتيار السائد كما في رفضه القمع الدموي إبان احتجاجات "الثورة الخضراء" عام 2009 ضد التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية لترجيح فوز محمد أحمدي نجاد ضد الزعيم الإصلاحي مير حسين موسوي. كذلك انتقد بزشكيان علناً العنف الدموي الذي استُخدم ضد المحتجّين عام 2022 بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني خلال اعتقالها في أحد مراكز "شرطة الاخلاق" بحجة مخالفتها قواعد "اللباس الشرعي". ومع أنه لا يدعو الى التخلّي عن الحجاب إلا أنه كان واضحاً في الإشارة الى فشل "المراكز الدينية" في مهمة الارشاد والاقناع الموكلة اليها، معتبراً أن القمع ليس الوسيلة الفضلى لإصلاح ذلك الفشل. وفي حملته الانتخابية أبدى بزشكيان الكثير من الآراء التي تعبّر عن الأولوية التي يعطيها للأوضاع الداخلية ولمعاناة الإيرانيين في حياتهم اليومية وهواجسهم المستقبلية.
 
خلال الحملة أيضاً سلّط الرئيس الإيراني الجديد الضوء، كذلك منافسه، على القضية الرقم واحد بالنسبة الى الإيرانيين، أي الوضع الاقتصادي، وكان المرشحان واضحَين في أن العقوبات الأميركية هي عقدة العقد. يعتقد بزشكيان أن حلّها يكمن في "الانفتاح" على الولايات المتحدة و"التفاوض" معها، وهو يدعو الى "إحياء الاتفاق النووي" للتخلّص من العقوبات. ربما يقصد اتفاق 2015 الذي أنجزه داعماه روحاني ومحمد جواد ظريف، وقد قبل المرشد ذلك الاتفاق بادئ الأمر ثم دفع به الى متاهة، ما قاد دونالد ترامب عام 2018 الى الانسحاب منه، ولم يستطع جو بايدن احياءه بعدما تولّت "ديبلوماسية الحرس الثوري" شؤون التفاوض، مستندة الى سلسلة تشريعات وإجراءات لتجاوز قيود الاتفاق والتزاماته والتخلّص من أي رقابة على تخصيب اليورانيوم والاقتراب من عتبة امتلاك سلاح نووي... 
 
استناداً الى الكثير من التحليلات فإن طهران دخلت مرحلة الترقّب والاستعداد لعودة ترامب الى البيت الأبيض. كانت حصّلت مكاسب من إدارة بايدن وحاولت استغلال الحرب على غزة والتوتير في جنوب لبنان والبحر الأحمر للحصول على المزيد التنازلات في سياق "احياء الاتفاق النووي" لكنها كما واشنطن لم تتمكن من كسر عقبة المستحيل أميركياً، لأنه مرتبط عملياً بالكونغرس. غير أن عودة ترامب قد لا تشكّل أفقاً مسدوداً، إذ أن واشنطن وطهران أصبحتا مقتنعتين بوجوب البحث عن اتفاق نووي جديد. 
 
كيف لبزشكيان أن يخترق واقع الحلقة (النووية) المفرغة التي يعلم أنها من صنع المرشد و"الحرس". وكيف له أن يحقق أي تغيير في اصلاح للهياكل الاقتصادية بهدف انشاء "بيئة ملائمة للاستثمار" وإيجاد "فرص عمل للتقليل من البطالة" كما وعد؟ يعرف بزشكيان جيداً أن تأثيره في السياسات الخارجية سيبقى محدوداً، لكنه يعرف أيضاً أن أي دور فاعل في السياسات الداخلية يتأثر حتماً بالخيارات الخارجية. فأي تحسين للوضع الاقتصادي (خدمات، حفز الأسواق، قوة شرائية...) يتطلّب ميزانيات لم تتوفّر لسلفَيه روحاني ورئيسي (بسبب العقوبات) حتى تتوفّر له، ويتطلّب استعادة كمّ كبير من المؤسسات الإنتاجية التي حُرمت الدولة من عائداتها بسبب استيلاء "الحرس" عليها. لا أحد يجهل أن المرشد هو الذي يرسم السياسات بالاعتماد على مساعديه ومستشاريه، والمرشد لا يرى الداخل إلا من زاوية الدور الإيراني في الخارج، وبالتالي دور "الحرس" والميليشيات التي فرّخها وباتت "جيوشاً" تقاتل من أجل المشروع الإيراني، من غزّة الى اليمن مروراً بلبنان وسوريا والعراق.
 
كانت هذه الانتخابات الرئاسية استفتاءً على النظام نفسه، إذ مثّل الرقم اللافت (60 %) لعدم المشاركة في التصويت في الجولة الأولى ردّاً صافعاً للذين حثّوا على دعم "شرعية النظام" بالإقبال الكثيف على الاقتراع. أما التحسّن النسبي في الجولة الثانية فبدا كأنه رهان أخير في المرشح الإصلاحي، وبالتالي كإنذار للمحافظين المهيمنين على كل مؤسسات النظام ويتهيّأون لعرقلة أي اصلاحات سيحاول بزشكيان القيام بها.  
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium