فقط في البلدان المعطوبة سياسياً والفاشلة مؤسساتياً والبائسة فكرياً، يمكن لفيلم سينمائي، متوسط المستوى، أنتج قبل أكثر من أربعين عاماً في ظل نظام ديكتاتوري، أن يصبح مهماً في تفسير تاريخ البلد أو أن يكون دالاً على أي شيء ذي أهمية وجدوى عامة، ويتحول إلى نقطة خلاف وجدل دائمين بخصوص معنى الهوية والتاريخ والحقيقة والطائفية فيها. هذه باختصار قصة عراقيين كثيرين، نخباً وجمهوراً، مع فيلم "المسألة الكبرى" الذي أنتجته مؤسسة السينما والمسرح العراقية في عام 1983، مستلهماً قصة "ثورة العشرين". يروي الفيلم قصة الشيخ ضاري المحمود الذي قتل ضابطاً بريطانياً غرب بغداد، واشتراكه في ثورة العشرين في القتال ضد البريطانيين، وصولاً الى مطاردة البريطانيين له بعد نهاية الثورة واعتقاله ومحاكمته ثم وفاته في السجن وتشييع العراقيين له احتفاءً به كرمز وطني لمقاومة البريطانيين.
في الواقع، باستثناء ربط بداية الثورة ونقطة انطلاقها بحادثة خان النقطة بين الفلوجة وبغداد حيث قتل المحمود وأقرباؤه الكولونيل جيرارد لجمن، وهي الحادثة التي حصلت بعد أكثر من شهر من اندلاع الثورة في الفرات الأوسط، محتوى الفيلم صحيح عموماً من الناحية التاريخية. فالمحمود شارك في ثورة العشرين وقاتل فيها بشجاعة، وقاد عشيرته في مواجهات مسلحة ضد البريطانيين، وكان على تراسل مع زعماء في الفرات الأوسط، داعماً ومتحمساً لها ومستعداً للاشتراك فيها، حتى قبل قتله لجمن في حادث يبدو متعلقاً بالدفاع عن كرامته الشخصية. في الحقيقة، عندما وصل المحمود الى كربلاء استُقبل فيها كأحد الأبطال الوطنيين وأراد أحد شيوخ العشائر من زعماء الثورة، بمحضر شيوخ آخرين، تقبيل يده التي قتلت لجمن، المعروف بتعاليه والذي فشل مسعى النجفيين لقتله في انتفاضة 1918 في المدينة، لكن المحمود رفض بشدة الى أن اضطر للموافقة بازاء إصرار الشيخ الفراتي الذي رد بالقول إنه نَذرٌ ينبغي تنفيذه، وإلا فإن عليه أن يطلق زوجته.
في السياقات التقليدية السائدة حينها بخصوص العلاقة المعقدة مع السلطات الحاكمة سواء عثمانية أو بريطانية، والتي تختلط فيها قيم عشائرية ومصالح اقتصادية وتأثيرات دينية ونزعات استقلالية تطورت لاحقاً، لا يختلف المحمود عن شيوخ الفرات الأوسط الذين قاتلوا في ثورة العشرين، فقد اشتركوا جميعاً، بما سُمّي "حركة الجهاد" بين عامي 1915- 1916 الداعمة للدولة العثمانية لصد التقدم العسكري البريطاني من الجنوب، وتعاونوا تالياً مع البريطانيين في حفظ الأمن قبل أن يختلفوا معهم ويقاتلوهم في أثناء "ثورة العشرين".
ثمة إفراط يبدو متعمداً ومحفَّزاً بدوافع طائفية في تحميل فيلم سينمائي ما لا يَحتمل، عبر تحويله الى وثيقة تأريخية لا شك في صحتها عن سعي حكومي عراقي في العهد البعثي لتشويه "ثورة العشرين" عبر سرقتها من الشيعة ومنحها للسنّة، وذلك في سياق أوسع بدأ يبرز تدريجياً في البلد بعد 2003 ويترسخ فيه بوضوح على المستوى السياسي والشعبي وحتى الثقافي، لتكريس سردية مغلوطة ومزيفة بأن تاريخ العراق الحديث، منذ إنشاء الدولة فيه في بداية العشرينات، هو عبارة عن صراع بين أقلية سنية متحكمة وأغلبية شيعية مُضطهدة. تُقَدَّم "ثورة العشرين" بهذا الصدد على أنها نقطة البداية التأسيسية التي مَهّدت الدروب للطائفية والصراع والفشل، ويُوضع حيز محدد فيها، تَشكل تالياً، لفيلم "المسألة الكبرى" على أساس أنه يمثل الرؤية البعثية لـ"ثورة العشرين" التي تقصي الشيعة منها.
"المسألة الكبرى" فيلم سينمائي يستلهم حدثاً تاريخياً ويعيد صياغته على أساس تخييل فني يتناسب مع الزاوية السينمائية والايديولوجية التي يتبناها الفيلم. من الناحية الفنية، هذا أمر عادي ومشروع ويحدث في كل الأفلام السينمائية التي تتناول أحداثاً تاريخية ويجري فيها خلط الحقيقة بالخيال لأسباب درامية سينمائية. بالإمكان هنا الحديث عن مئات الأفلام السينمائية المُنتجة على نحو شبيه، من فيلم "الناصر صلاح الدين" إلى فيلم "أيام السادات"، مروراً بأفلام كثيرة أنتجتها هوليوود وغيرها عن شخصيات وأحداث تاريخية مثل ونستون تشرشل وأدولف هتلر وجوزف ستالين، والحرب العالمية الثانية والثورة الأميركية وغيرها كثير. في كل هذه وسواها، هناك شيء من حقيقة تأريخية يستند إليها الفيلم، كإطار عام له، لكن هناك أيضاً الكثير من الخيال الدرامي لصناعة فيلم محبوك جيداً ويثير اهتمام المتلقين. بعكس الأفلام الوثائقية التي ينبغي أن تلتزم بالدقة التاريخية في رواية الأحداث، ليس مطلوباً ولا متوقعاً من الأفلام السينمائية مثل هذا الالتزام بالحقيقة التاريخية. "المسألة الكبرى" فيلم سينمائي وليس وثائقياً.
ثمة بُعد ايديولوجي واضح في "المسألة الكبرى"، إذ كانت الدولة البعثية، كسياق عام، تنفق بسخاء على الأفلام السينمائية ذات المحتوى السياسي - التأريخي التي تعزز رؤيتها القومية الثنوية بخصوص الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، كما فعلت مع أفلام أخرى شبيهة مَوّلتها مثل "الحدود الملتهبة"، و"القادسية" و"الأيام الطويلة" و"الملك غازي" التي استندت كلها بدرجات مختلفة إلى وقائع تاريخية، وخَضع إنتاجها لاشراف حكومي خاص يصل أحياناً لأعلى هرم في السلطة: صدام حسين نفسه.
يحاجج كثيرون بأن هذا الفيلم، بسبب إنتاجه في ظل نظام مركزي شمولي من مؤسسة حكومية تابعة له وفي ظل إشراف سلطوي عال وإنفاق سخي، فإنه لا بد أن يكون تعبيراً حقيقياً عن رأي السلطة البعثية الحاكمة حينها بـ"ثورة العشرين". هذا الافتراض منطقي ومعقول، إذ يُقدم الفيلم رسالة سياسية واضحة ومقصودة بخصوص هذه الثورة والكيفية التي ينبغي فهمها فيها، لكنها ليست رسالة طائفية أو مذهبية، بل قومية جمهورية، مناهضة للبريطانيين، على العكس من التفسيرات الطائفية السائدة هذه الأيام التي تُقدم بوصفها معلومة أو بديهة لا تستحق النقاش بشأنها.
ينتمي البعثيون، كمجموعة ايديولوجية حتى وإن كانت صغيرة حينها، الى معظم الطيف السياسي العراقي الواسع في الخمسينات المعروف بمعارضته النظام الملكي باعتباره نظاماً رجعياً وعميلاً للبريطانيين ولا يُعبّر عن المطامح الحقيقية للشعب المحكوم بسلطة الخوف والقسر، عبر هيمنة القلة ذات الامتيازات الاقتصادية والسياسية على الكثرة المحرومة. هذه هي النظرة السائدة والراسخة حينها سياسياً وشعبياً في عراق الخمسينات، وهناك الكثير مما كان يبررها في الواقع. في إطار هذه النظرة، اعتُبر معظم شيوخ الفرات الأوسط الذين أشعلوا الثورة عسكرياً، كإقطاعيين متحالفين مع النظام الملكي، تولوا المناصب فيه وحصلوا على المنافع منه، ودافعوا عنه، وبقوا معه حتى سقوطه. لذلك عندما قامت حكومة عبد الكريم قاسم في أيلول (سبتمبر) 1958، بعد شهرين من الإطاحة بالنظام الملكي، بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي انتزع الأراضي الزراعية الواسعة بيد شيوخ الفرات الأوسط (ومعظمهم شارك في الثورة) من اقطاعيي المرتبة الثانية لجهة حجم حيازاتهم الزراعية، إلى جانب الأغوات الأكراد، ومن كبار الإقطاعيين من شيوخ الجنوب (الذين لم يشاركوا في الثورة) والشمال، الموصل تحديداً، عَمَّ العراق فرحٌ هائل، بسبب انهاء النظام الجمهوري الفتي لما اعتُبر، وعلى نحو صحيح، نظاماً زراعياً ظالماً وقرو-وسطياً، مَنح الشيوخ سلطة القانون وقوة المال وملكية الأرض، في المناطق الريفية التي كانت يعيش فيها معظم العراقيين. برغم اختلافاتها الكثيرة، كانت كل الحكومات الجمهورية في العراق منذ 1958 حتى سقوط النظام البعثي في 2003، تتفق في احتفائها بالإصلاح الزراعي ونهاية الإقطاع، بوصفهما انجازاً كبيراً وخطوة تقدمية هائلة، بغض النظر عن التقييمات الاقتصادية المختلفة لجدوى تفكيك الحيازات الزراعية الكبيرة التي كان يملكها الشيوخ الإقطاعيون.
بسبب هذا كله، لم يحتف العراق الجمهوري أبداً، منذ عهد عبد الكريم قاسم، مروراً بحكم الأخوين عارف، ثم في العهد البعثي في ظل أحمد حسن البكر وصدام حسين، بزعامات الفرات الأوسط كزعماء للثورة ولم يتناولهم في الحيز العام كثوريين ووطنيين، بل اكتفى بالاحتفاء بالثورة نفسها كفعل شعبي طابعه استقلالي ووطني مناهض للاستعمار. ليس منطقياً ولا معقولاً أن يحتفي حزب البعث بشيوخ يعتبرهم، حسب ايديولوجيته وفهم معظم العراقيين، على أنهم اقطاعيون رجعيون ومتحالفون مع نظام ملكي تابع لعدو العرب الأول حينها، بريطانيا، خصوصاً وأن المعيار الأساسي للوطنية العراقية على امتداد المجتمع السياسي والشعبي في العراق، خارج السلطة الملكية بضباطها الشريفيين الذين أصبحوا ساستها أيضاً، هو العداء لبريطانيا، فيما نُظر لشيوخ الفرات الأوسط المساهمين بالثورة على أنهم كانوا أعداءً مؤقتين لبريطانيا في اثناء الثورة والشهور السابقة لها، وذلك لأسباب مصلحية مباشرة، ثم عادوا للتحالف معها على مدى عقود تالية. حتى وإن كان في هذه النظرة الكثير من الاختزال والثنوية، فإنها كانت سائدة عراقياً ودوافعها لا تتعلق بالانتماء المذهبي أو الهوية الطائفية، بل ووقائع اقتصادية وسياسية وقانونية.
من هنا يبدو اختيار الشيخ ضاري المحمود في فيلم "المسألة الكبرى" متسقاً مع هذه الرؤية الإيديولوجية، فالرجل قاتل البريطانيين في أثناء الثورة، وأحرقت قواتهم مزرعته وبيته، وتعامل معه زعماء الفرات الأوسط بإكبار كوطني عراقي ومناضل، خصوصاً بعدما ظل طريداً مع ولديه إلى أن القى البريطانيون القبض عليه في 1928 وحكموا عليه بالإعدام الذي خفف الى السجن المؤبد ليموت في السجن بعدها بأشهر قليلة، وتحول الى رمز وطني عراقي حينها، على العكس من شيوخ الفرات الأوسط الذين أصبحوا جزءاً من النظام الملكي. على هذا النحو، يبدو الضاري أكثر ملاءمة لأن يكون الشخصية الرئيسية في فيلم سينمائي يحتفي بثورة العشرين اتساقاً مع فهم العراق الجمهوري لمعنى هذه الثورة وتقييمه للشخصيات التي قادتها.
الاحتفاء بزعماء ثورة العشرين من الفرات الأوسط، كقادة وطنيين ومضحين، ظاهرة جديدة برزت بعد 2003، في ظل صعود أحزاب الإسلام السياسي، وسعيها لترسيخ سردية طائفية بخصوص معنى العراق وتاريخه، بالرغم من أن هؤلاء الشيوخ أنفسهم لم يكونوا طائفيين ولم يبرروا أبداً أدوارهم المهمة في الثورة وقيادتها على أسس مذهبية وطائفية، بل كانوا يقدمون أنفسهم بوصفهم عروبيين قوميين ووطنيين استقلاليين مناهضين للسيطرة البريطانية.
فقط في عراق تهيمن عليه أحزاب إسلام سياسي شيعي جائرة وطائفية يُعاد صناعة تاريخ البلد وتشكيل حاضره على أساس هذا القدر الهائل من التشويه وبث الكراهية وتقسيم العراقيين الى طوائف متصارعة في الماضي كما في الحاضر…