النهار

هل لبنان بحاجة فعلاً إلى رئيس؟
راغب جابر
المصدر: النهار العربي
​ لقد تعود اللبنانيون على العيش معلقين في الفراغ، ومثله الأفقع الفراغ في المؤسسات وأولها الفراغ في رئاسة الجمهورية وعشرات، وربما مئات، المواقع القيادية في الادارة العامة للدولة. انها دولة بلا رأس وبلا أعصاب، دولة مرتخية مصابة برعاش دائم.
هل لبنان بحاجة فعلاً إلى رئيس؟
حفلات بيروت تتحدى الحرب والاوضاع الاقتصادية الصعبة
A+   A-
ما زال لبنانيون عديدون يصدقون أن بلدهم بلد، وأن له نظاماً سياسياً، وأن هذا النظام برلماني، وأن انبثاق السلطات فيه يتم بديموقراطية، وأن فصل السلطات قائم كما أراده المشرّعون الأوائل على خطى مونتسكيو.
 
لا يريد هؤلاء أن يصدقوا أن المكان الذي يعيشون فيه لم يعد بلداً بالمقاييس العالمية للبلدان، فلا هو ديموقراطية ولا هو نظام رئاسي ولا ديكتاتورية ولا ملكية ولا أوليغارشية. أو ما شئتم من أوصاف.. لا هو بلد مستقر ولا بلد حرب أهلية (أقله حتى الآن)، وليس معروفاً إن كان أهله جائعين أو بطرانين، وليس معروفاً على وجه الدقة عددهم، مقيمين ومهاجرين ومهجرين وضيوفاً ولاجئين وسياحاً ومتسللين...
 
قطعة الأرض هذه ذات الـ10452 كيلومتراً مربعاً أعجزت اللبنانيين والعالم أجمع عن إيجاد طريقة لإدارتها، استعصت على كل الأفكار والنماذج العالمية في الحكم حتى ليكاد الجميع ينفضون يدهم منها.
 
هذه البقعة التي لا تساوي محافظة أو ولاية في دولة من الحجم دون الوسط تبدو معقدة وعصية على الحكم بشكل لا يُصدق. وفي مفارقة غريبة فعلاً تضم هذه البقعة نخباً مثقفة ومتعلمة تعليماً عالياً وراقياً تضاهي نخب دول عريقة ومتقدمة في الصناعة والتجارة والثقافة والفكر والاختراع.
 
يسير مركب هذا البلد في بحر هائج بلا قبطان، وبلا أي شيء تقريباً، على هواه وهوى الريح، منتظراً النجدات من هنا ومن هناك، حتى من القراصنة، وفيما هو يتهاوى يميناً وشمالاً ويخضه الموج والرياح خضاً عنيفاً، يرقص أهله على وقع مأساتهم ومصيرهم الغامض.
 
يتعامل اللبنانيون مع أخبار بلدهم بكثير من اللامبالاة، اليوم ستنقطع الكهرباء عن عموم الأراضي اللبنانية بسبب نفاد مادة الفيول في مخازن شركة الكهرباء الرسمية. خبر عادي جداً في بلد اعتاد انقطاع الكهرباء. لم تعد كهرباء الدولة حاجة ملحة للبنانيين، باتت لهم "شريكات" خاصة في الأحياء يستثمرها أتباع أهل السلطة أنفسهم الذين يعجزون منذ عشرين سنة عن إيجاد حل للمشكلة المستعصية التي استنزفت أموال الدولة والمواطنين، وكذلك محطاتهم الذاتية المنتشرة على الأسطح وتحول نور الشمس إلى كهرباء.   
 
أزمة الكهرباء هي مجرد مثال، لكن البلد يعاني مئات المشكلات الأخرى على هذه الشاكلة تتعلق بالخدمات والتعليم والصحة والنقل والبيئة والعمل والمصارف والهجرة والقضاء والأمن والعدالة.... والأخلاق.
 
لقد تعود اللبنانيون على العيش معلقين في الفراغ، ومثله الأفقع الفراغ في المؤسسات، وأولها الفراغ في رئاسة الجمهورية وعشرات، وربما مئات، المواقع القيادية في الإدارة العامة للدولة. إنها دولة بلا رأس وبلا أعصاب، دولة مرتخية مصابة برعاش دائم.
 
تعيش الطبقة السياسية اللبنانية حالة من الفصام في بلد تهزه كلمة من هنا وتصريح من هناك، في حروب هي في حقيقتها حروب طائفية – مناطقية لا تمتّ إلى السياسة الحقيقية بصلة. مجرد "خناقات" عصبوية تضع الجماعة الطائفية أو المذهبية فوق الوطن. 
 
تتحرك الدول والسفراء واللجان لمساعدة البلد على حل أزمة الفراغ في الرئاسة، وبالتالي في بقية المؤسسات، فيما اللبنانيون يبدون في عالم آخر. البلد "ماشي" من دون إدارة وقيادة، مجتمع في حالته الطبيعية الأولى، لكنه "يمشي"، كل شيء موجود ومتوافر، دول تحل محل الدولة وتقوم بمقامها. دول هي عبارة عن أحزاب وطوائف وشركات ومجموعات مهنية ونقابات... وعصابات. 
 
بلد على شفا حرب، بل هو في قلبها بشكل أو بآخر، بلا قيادة، بلا سلطة، بلا قرار وبلا موازنة وبلا مال في خزانته وبلا أي استعداد لكارثة أو كوارث محتملة.
 
يتحرك السياسيون ويعقدون اجتماعات ويقدمون اقتراحات لانتخاب رئيس للجمهورية، لكن كل حركتهم جعجعة بلا طحين على ما يقول المثل الشائع.
 
بالأمس طرحت المعارضة اقتراحين لانتخاب رئيس، وهما سينضمان إلى أطروحات سابقة محلية وعربية ودولية. انتخاب الرئيس في لبنان معضلة كونية، أكبر وأهم من انتخاب رئيس لأميركا أو للصين أو للهند. قدم النواب اقتراحيهما في مجلس النواب، لكن المشكلة ليست في ندرة المبادرات، بل في المسافة الشاسعة بين رؤيتين الى البلد وموقعه ودوره ومستقبله، رؤية تراه في صميم الإقليم وأزماته ورؤية تراه خارج الإقليم وأزماته، ولا يمكن أن يركب حل اذا لم تتقلص المسافة، ولا يبدو من السياق العام لتطور الاوضاع انها ستتقلص قريبا. 
 
لن يستطيع اللبنانيون انتخاب رئيس هم الذين عجزوا عن تنظيم انتخاب مخاتير ورؤساء بلديات. كل شيء الآن بات مربوطاً بغزة والحرب الإسرائيلية عليها وبما بعد غزة وبالانتخابات الأميركية وبالصراعات الإقليمية وربما بالحرب الروسية الأوكرانية.
 
 
تنقلب السياسة في بريطانيا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وايران، ويهتز العالم على وقعها ولبنان لا يهزه شيء، تعيش طبقته السياسية في عالم آخر، يؤازرها شعب مطواع متطيف متمذهب حتى النخاع.
 هل لبنان بحاجة فعلاً إلى رئيس؟ يبدو ان كثيرين لا يهمهم الأمر.




 

اقرأ في النهار Premium