شكلت قمة دول حلف شمال الأطلسي التي انعقدت بين 9 تموز (يوليو) الجاري و11 منه، مناسبة لدول الحلف العسكري الأكبر في العالم، وربما الأكبر في التاريخ والأطول عمراً واستقراراً في التاريخ المعاصر. فالقمة انعقدت تحت شعار الاحتفال بيوبيلها الماسي، إذ إن تأسيس الحلف يعود إلى نيسان (أبريل) 1949 كتتمة لمعاهدة الدفاع المشترك الأوروبية التي وقعتها عدة دول أوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية في شهر آذار (مارس) 1948، وضمت كلاً من بلجيكا، فرنسا، لوكسمبورغ، هولندا والمملكة المتحدة. ويعتبر معظم المؤرخين أن تاريخ التوقيع على معاهدة الدفاع المشترك الأوروبية التي شاركت فيها الولايات المتحدة من خلف الستارة بمثابة الموعد الحقيقي لولادة حلف شمال الأطلسي الذي أعلن عنه في السنة التي تلت، خلال قمة عقدت في العاصمة الأميركية واشنطن حيث تحولت الى حلف شمال الأطلسي "الناتو" مع انضمام كل من كندا، الدانمارك، آيسلندا، إيطاليا، النروج، البرتغال والولايات المتحدة الى المجموعة الأولى.
وكان معروفاً أن الحلف نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية من أجل كبح جماح السياسة التوسعية نحو الغرب التي نفذها الاتحاد السوفياتي بقيادة الدكتاتور جوزيف ستالين، إثر الانتصار الكبير الذي تحقق بسحق الرايخ الثالث النازي في أيار (مايو) 1945. وكان الاتحاد السوفياتي خرج منتصراً أكبر من الحرب على الرغم من كل الخسائر المهولة التي مني بها في الحرب ضد ألمانيا النازية بين 1941 و1945. وكانت القوات السوفياتية أول من دخل عاصمة الرايخ الثالث النازي، وأول من وضع اليد على رفات زعيم الرايخ الفوهرر أدولف هتلر مع مسارعة القوات السوفياتية الى الاستيلاء على مبنى الرايشتاغ حيث كان هتلر يتحصن في جزء منه تحت الأرض. وأول الجيوش الحليفة التي رفعت علمها فوق مبنى الرايشتاغ الألماني كان الجيش الأحمر. وبالتالي عدّ هذا الانتصار والفوز على جيوش الحلفاء الأميركيين والبريطانيين في السباق نحو احتلال أكبر قدر من الأراضي المحررة في شرق أوروبا، ثم في ألمانيا بمثابة انتصار جيوسياسي تاريخي حققه جوزيف ستالين على حلفائه.
لماذا هذه المقدمة؟ للقول إن جذور حلف "الناتو" تعود إلى نهايات الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من توسع عسكري وسياسي سوفياتي في مختلف أنحاء أوروبا الشرقية لم يتوقف عند تحرير تلك البلدان والشعوب من الاحتلال النازي، بل إن موسكو عملت بالتوازي على توسيع نطاق سيطرتها، وإحلال أنظمة تابعة لها في تلك البلدان، وحكمها عسكرياً، إضافة إلى سعيها الذي بدا واضحاً منذ العام 1946 للتوسع بأساليب أخرى نحو الغرب الأوروبي. وقد قام حلف "الناتو" كما قال ذات مرة أمينه العام الأول هاستينغز ليونيل إسماي بهدف "إبقاء الاتحاد السوفياتي خارج أوروبا (الغربية) والأميركيين داخلها، وضبط الألمان". وبالطبع ولاحقاً بعد تقسيم ألمانيا إلى شطرين شرقي تحت سيطرة موسكو، وغربي تحت سيطرة القوى الغربية الثلاث المتحالفة الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا، انضمت ألمانيا الغربية إلى الحلف عام 1955 لتصبح إحدى أهم الدول في الحلف.
ومن يدرس تاريخ حلف شمال الأطلسي يدرك شدة ارتباط وجوده بالاتحاد السوفياتي الذي تحول بعد سقوطه إلى روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي والإمبراطورية الروسية القيصرية. ولطالما شكل حلف "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة السد الذي حال دون إطباق موسكو قبل 1991 وبعدها بداية على الجزء الغربي من القارة الأوروبية، ثم على الشطر الشرقي من أوروبا الذي تحررت دول عدة فيه من سيطرتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولا يخفى على أحد أن حجر الرحى في نظام الدفاع المشترك لحلف "الناتو" كان ولا يزال الولايات المتحدة التي تتمتع بتفوق حاسم على شركائها في الحلف، إلى درجة لمسها العالم أجمع في حرب أوكرانيا التي حاولت روسيا بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين غزوها في 25 شباط (فبراير) 2022، حيث كان للدور الأميركي القائد لحلف شمال الأطلسي ومعه الاتحاد الأوروبي الأثر الأكبر لمنع موسكو من تحقيق كامل أهدافها في أوكرانيا. ولا تزال روسيا بعد أكثر من ثلاثين شهراً على التوالي تخوض حرباً من دون أن تقدر على حسمها.
والحال أن القيادة الأميركية (عهد الرئيس جو بايدن) لـ"الناتو" من الناحية العملية أدت من خلال حلف شمال الأطلسي الى تغيير الواقع الميداني على أرض أوكرانيا، بمواجهة آلة الحرب الضخمة التي تملكها روسيا الاتحادية. والأخيرة لا تزال تتمتع بتفوق على جارتها الصغرى، لكنها فشلت في حسم الحرب بما أدى الى إضعافها وكشف نقاط ضعفها الكبيرة بمواجهة الولايات المتحدة. الأهم انها بسبب استفحال نقاط ضعفها اضطرت روسيا إلى التعويل أكثر على حلفها مع جمهورية الصين الشعبية بقيادة شي جينبينغ لتأمين دعم على مختلف الأصعدة ومساعدتها على الالتفاف على نظام العقوبات الذي أقامته ضدها الدول الغربية المتحالفة دعماً لأوكرانيا. وقد دفعت حرب أوكرانيا دولاً كانت اختارت تاريخياً الحياد وعدم الانحياز مثل فنلندا والسويد، الى المسارعة لطلب الانضمام الى "الناتو" مخافة السياسة التوسعية التي انتهجها الرئيس بوتين بناء عل قراءته الخاصة لتاريخ روسيا القديم، والأهم تاريخ روسيا الحديث وكارثة سقوط الاتحاد السوفياتي التي اعتبرها بوتين مفصلاً تاريخياً كارثياً لروسيا التي سلخت عنها مداها الحيوي، أي دول أوروبا الشرقية التي وقعت بنهاية الحرب العالمية الثانية تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي.
في قمة واشنطن كانت علامات القلق بادية على وجوه قادة الدول الشريكة للولايات المتحدة، مع ارتفاع حظوظ الرئيس السابق دونالد ترامب للفوز بالرئاسة الأميركية. فتعثر ترشيح الرئيس الحالي جو بايدن شكل عامل ضغط كبير على حلف "الناتو"، إذ سبق للرئيس ترامب أن نفذ خلال ولايته السابقة سياسة مناوئة للحلف ولدور أميركا المتقدم فيه، ولحجم المسؤوليات التي تضطلع بها الولايات المتحدة تاريخياً وكلفتها العالية على الخزينة الأميركية. والخوف من احتمال عودة ترامب الى البيت الأبيض مصدره موقفه السلبي تجاه أوكرانيا، وربما استعداده للدفع بتسوية لوقف الحرب يكون ثمنها إجبار كييف على التخلي عن منطقة الدونباس وإلحاقها بروسيا مع شبه جزيرة القرم. وقد أدت هذه الخشية الى إقرار تسليم كييف مقاتلات متطورة من طراز"أف 16" تحسباً لاحتمال وصول ترامب الى سدة الرئاسة مجدداً وتغيّر السياسة الأميركية الخارجية. وبالتالي يكون ترامب حقق لبوتين الانتصار الاستراتيجي الذي قد يمكنه لاحقاً من الذهاب أبعد في اتجاه جمهوريات البلطيق الثلاث، وسائر دول جوار روسيا التي تعارض الأيديولوجية التوسعية لروسيا فلاديمير بوتين.
ومن بين ملفات كثيرة تثير قلقاً كبيراً لدى الحلفاء أن يحذو ترامب سياسة تجاه الشركاء الأوربيين تكمل السياسة "الصعبة" التي مارسها معهم، وتشجيعه أحزاب اليمين الأقصى الأوروبية التي تتقاطع في مكان ما مع موسكو. وبالتالي إسقاط فلسفة حلف "الناتو" الذي اتخذ له مؤسسوه شعار "الواحد للكل والكل للواحد". وهي مستقاة من مقولة لاتينية قديمة، انتشرت عالمياً في القرن التاسع عشر مع رواية "الفرسان الثلاثة" للروائي الفرنسي ألكسندر دوما. من هنا السؤال: مع ترامب ماذا سيبقى من شعار الكسندر دوما؟