ولدت شخصية "الليدي ماكبث" المتخيلة على يدي وليام شكسبير، في أوائل القرن السابع عشر في مسرحيته الشهيرة التي تحمل اسمها، في بلاط اسكتلندا حيث حملتها شهوة السلطة إلى دفع زوجها بعيداً في طريق مظلم مخضّب بالدماء. وبعد نحو قرن من الزمن، بدأ كل عصر ينتج "الليدي ماكبث" البريطانية الخاصة به في "10 دوانينغ ستريت" حيث يعيش رئيس الوزراء وعائلته. كانت هناك أطياف شتى للسيدة الأولى تختلف قليلاً أو كثيراً عن النموذج الشكسبيري، وخرجت بعضهن عنه، أو مضين بأزواجهن في وجهة معاكسة للتي اختارتها بطلة المسرحية.
حكاية السيدة البريطانية الأولى بوجوهها المختلفة، بدأت في عام 1721، مع تأسيس وظيفة رئيس الوزراء، التي أداها حتى الآن 58 شخصاً، كان 47 منهم متزوجين. روبرت والبول دشّن المنصب الجديد وبقي 20 سنة فكان صاحب أطول ولاية بين جميع من خلفوه. وعقيلته كاثرين والبول التي كانت سبّاقة إلى حمل لقب السيدة الأولى، توفيت في 1737، فاقترن بثانية رحلت في غضون أشهر، هي الأخرى.
ثمة 200 عام ونيف بين كاثرين وكلاريسا إيدن، السيدة الأولى الأقرب إلى "الليدي ماكبث" الشكسبيرية، في رأي معاصرين اعتبروا أنها كانت وراء تورط زوجها أنتوني في مغامرة "العدوان الثلاثي" ضد مصر عام 1956. وهذه قضت على مسيرته السياسية قبل أن يكمل عامه الثاني في "10 داونينغ ستريت" وقصّرت عمره أيضاً. وكلاريسا، هي ابنة جاك تشرشل شقيق ونستون، تزوجت إيدن حين كان وزيراً للخارجية، في 1952 وله ضعف عمرها (32 عاماً) تقريباً. وقد طلق زوجته الأولى قبل ذلك بنحو سنتين.
والطريف أن النموذج المناقض تماماً لـ"الليدي ماكبث" الشريرة، كانت كليمنتاين تشرشل زوجة ونستون التي حملت لقب السيدة الأولى ثلاث مرات كانت آخرها بين 1951 و1955، أي قبل كلاريسا مباشرة. ونُسب إليها دور رئيسي في إنجازات زوجها الاستثنائي الغريب الأطوار وبمساهمته الحاسمة في دحر النازية، ما جعل عبارة "وراء كل عظيم امرأة" تبدو مفصلة على قدها. كانت أطول قامة من تشرشل وأصغر منه بنحو عشر سنوات، جميلة متوقدة الذكاء وقادرة على مجاراته فكرياً. وكانت الشخص الوحيد القادر على كبح جماحه حين يتمادى في إزعاج سكرتيراته، أو يتبنى رأياً غير مقبول، مثلاً. وبقيت إلى جانبه في السراء والضراء.
ليس هناك ما يدل إلى شجب كليمنتاين عنصرية زوجها الفاقعة التي تجلت في توصيفه الظالم للمسلمين والعرب، مثلاً. إلا أنها أدت دوراً أساسياً في تصويب عمله، بما في ذلك تحرير خُطبه أو كتابتها، كما شاركت في حملاته الانتخابية وحضرت معه اجتماعات رفيعة المستوى. واعترف الجميع، بمن فيهم تشرشل نفسه، بدورها الاستثنائي في صناعة البطل الذي كان المفضل لدى الملكة إليزابيث الثانية بين رؤساء الوزارة الـ15 الذين عينتهم.
ساره براون التي حملت اللقب بين عامي 2007 و2010، تقترب من كليمنتاين، من نواح عدة، ولكن شتان بين النتائج التي انتهت إليها كل منهما. وبوصفها متخصصة في العلاقات العامة، نظمت حملة غوردون الانتخابية وشجعته بقوة على البقاء في الحكم حين كان استمراره عبارة عن انتحار. لكنها لم تسبب خسارته التي مهدت لها عوامل عديدة.
أما كاري جونسون، فيُعتقد أنها أدارت مقود السلطة في مناسبات عدة، في الوجهة الخاطئة، بدلاً من زوجها. وكانت البطلة الحقيقية، كما يتردد، للعديد من الفضائح، مثل "بارتي غيت" وإعادة تحديث ديكور شقتهما في "داونينغ ستريت" وتعيين بعض مساعديه وطرد آخرين.. إلخ. وهي ثاني سيدة أولى في تاريخ بريطانيا يقترن بها رئيس وزراء بعدما طلق زوجته السابقة، وهو على رأس عمله. كما أنها أول امرأة تعيش في "داونينغ ستريت" مع سيدها قبل أن تقترن به رسمياً. وقد مكثت مع بوريس منذ 2019 وحتى زواجهما في 2021 والذي خرجا بعده بنحو سنة من "10 داونينغ ستريت".
وساهمت الليدي مارغوت أسكويث أيضاً مساهمة مهمة من خلال سلوكها العام وهبوط أسهمها في سقوط زوجها هربرت أسكويث الذي أخذ البلاد إلى الحرب العالمية الأولى. لكنها لم تتدخل بعمله مباشرةً. اقترنت به في 1894 بعد وفاة زوجته الأولى، وعندما صار رئيساً للوزراء باتت هي السيدة الأولى (1908- 1916). وقيل إنها كانت مثلية.
وهذه التهمة، على خطورتها في ذلك الزمن، تكاد لا تساوي شيئاً مقارنة بالعلاقة التي أقامتها دوروثي زوجة هارولد ماكميلان، السيدة الأولى من 1957 وحتى 1963. فقد بقيت على امتداد 30 عاماً خليلة النائب المحافظ روبرت بوثبي الذي يعتقد أنه كان في الوقت نفسه يخوض تجربة مثلية مع واحد من أعتى مجرمي لندن.
أما نظيراتهن الباقيات، فابتعدن عموماً عن عمل أزواجهن. مثلاً، فيوليت آتلي كانت سيدة أولى (1945-1951) اكتفت بخدمة كليمنت على الصعيد الشخصي، قائلة إنها "ليست زوجة سياسية". كما تفرغت نورما ميجور (1990-1997) للأعمال الخيرية تاركة السياسة لأصحابها.
أما ماري ويلسون (1964-1970 و1974-1976)، فلم تكتفِ بالوقوف على مسافة من السلطة، بل عارضت زوجها هارولد علناً بوقوفها ضد التسلح النووي والتصويت ضد انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي في صيغته القديمة. وهذه كانت الشاعرة الوحيدة بين جميع من شاطرنها اللقب. وراجت فنون التصميم والأزياء بين أخريات، إذ مارسته نورما وسامانثا كاميرون (2010-2016) وأكشاتا سوناك (2022-2024). وهناك من تقدمن بشكل أو آخر على أزواجهن، كشيري بلير (1997-2007) التي بقيت تعمل محامية رفيعة المستوى بعيداً عن "10 داونينغ ستريت" وحققت دخلاً أكبر مما كان يتقاضاه توني. وأكثرهن ثراءً هي أكشاتا الأغنى من الملك تشارلز الثالث نفسه. لكن هذا لن يخلّدها. فالمرأة غالباً ما تعبر كالطيف في كواليس السلطة البريطانية، ما لم تكن "سيدة حديدية"!