تنفس التونسيون الصعداء ليلة 7 تموز (يوليو) بإعلان نتائج الدور الثاني للانتخابات التشريعية الفرنسية التي أظهرت فشل حزب "التجمع الوطني" (اليميني المتطرف) وتقدم اليسار.
تخلص الكثيرون من كابوس كان جاثماً على صدورهم منذ أن اتخذ الرئيس إيمانويل ماكرون قراره المفاجئ تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، تفوق في الدور الأول منها حزب جوردان بارديلا ومارين لوبن.
رد الفعل هذا لم يكن نتيجة انخراط عاطفي للتونسيين في الصراع السياسي في فرنسا، فهم ابتعدوا منذ مدة، عقلاً وإحساساً، عن الحياة السياسية الفرنسية، لكن عوامل عدة جعلتهم يشعرون هذه المرة بأنهم مهددون بصعود أقصى اليمين.
العامل الأول وراء هذا الشعور هو قلقهم على أوضاع التونسيين المقيمين في فرنسا. هؤلاء هم أهلهم وأصدقاؤهم الذين تربطهم بهم علاقات وطيدة رغم المسافة الجغرافية.
يبلغ عدد التونسيين المقيمين في فرنسا أكثر من مليون و380 ألفاً. وتقول التقديرات إن أكثر من نصفهم يحملون الجنسية الفرنسية. بل إن البعض يقدر نسبة الذين يحملون الجنسية الفرنسية منهم بالثلثين. هذا بالإضافة إلى الآلاف الذين يتمتعون بتراخيص إقامة.
انتهج حزب "التجمع الوطني" خلال حملته الانتخابية سياسة التخويف من المهاجرين. وإن فشل في الفوز بالانتخابات فقد نجح في بث الخوف لدى المهاجرين التونسيين ولدى التونسيين الذين لهم علاقات بفرنسا.
ساد الانطباع بأن أول إجراء سيتخذه أقصى اليمين حال تسلمه مقاليد السلطة هو منع التأشيرات أو التقتير فيها تجاه بلدان دون غيرها، من بينها تونس.
التونسيون هم ثامن جنسية من بين الجنسيات الحاصلة على تأشيرات فرنسية (95 ألف تأشيرة سنة 2023). وأي محاولة للتضييق على التنقل إلى فرنسا تخلق لدى الكثيرين انطباعاً بأن باب التبادل والتواصل وقضاء المصالح قد أغلق، وأن حلم الهجرة لمن ظل يرى فيها نجاته الفردية قد تبخر.
كذلك استهدف برنامج "التجمع الوطني" المهاجرين أصحاب الوضعيات الهشة في فرنسا، ومن بينهم الكثير من المهاجرين التونسيين. تعهد الحزب وقف تسوية الوضعيات غير القانونية وحرمان المهاجرين غير الشرعيين من العلاج الطبي وطرد الأجانب العاطلين من العمل منذ أكثر من ستة أشهر. ركزت سرديات الحزب على الخطر الأمني الذي يشكله وجود أعداد كبيرة من المهاجرين في أوضاع غير قانونية، ما أوحى بأنه سوف يكثّف نسق ترحيل هؤلاء المهاجرين، بخاصة منهم أصيلي شمال أفريقيا، لو فاز بالاقتراع.
بالإضافة إلى ذلك، أكد أقصى اليمين الفرنسي عدم ارتياحه إلى تزايد أعداد المتجنسين من أصول عربية وأفريقية.
يتوجس أقصى اليمين من الأجانب عموماً. وبالنسبة إلى مهاجري شمال أفريقيا، فإن له شكوكاً في ولائهم وهو منزعج من عدم رغبتهم في التخلي عن هويتهم الوطنية والثقافية، ما يعيق اندماجهم صلب المكون الأوروبي - المسيحي للمجتمع الفرنسي.
اكتسب الجنسية الفرنسية، خلال الفترة بين 2018 و2023، أكثر من 16 ألف تونسي، أي بمعدل يفوق الألفين في العام الواحد.
يمثل الحصول على الجنسية الفرنسية بوليصة تأمين لمن يريد من المهاجرين الاستقرار نهائياً في فرنسا. أصبح اليوم الجميع يتفهم الفائدة العملية من اكتساب جنسية البلد المضيف. ولم يعد اكتساب الجنسية الفرنسية يثير اتهامات بالتخوين والتكفير في المجتمعات الأصلية مثلما كانت الحال أيام الاستعمار.
قبل الاقتراع، أعلن حزب "التجمع الوطني" نيته إلغاء حق المهاجرين المولودين في فرنسا من والدين أجنبيين في اكتساب الجنسية. كما لمّح قياديوه إلى أنه من المحتمل في ظل حكمهم أن يصبح نزع الجنسية عن مكتسبيها أمراً يسيراً للسلطة.
كان موقف أقصى اليمين من سياسة التجنيس مرآة لنظرته الانتقائية تجاه الأجانب ونزوعه نحو التمييز ضد المهاجرين أصيلي شمال أفريقيا.
نقلت صحيفة "لوموند" تصريحاً لبرلماني من الحزب جاء فيه أن "أهل المغرب العربي الذين يحملون جنسية مزدوجة لهم مكانهم في فرنسا، ولكن ليس ضمن المناصب العليا. يجب علينا أن نحمي فرنسا".
بل إن بارديلا (الذي كان مرشحاً لرئاسة حكومة أقصى اليمين، لو فاز بالانتخابات) انتقد تعيين نجاة فالو بلقاسم المغربية المولد وزيرة للتعليم في ظل حكم الرئيس فرانسوا هولاند، معتبراً ذلك "خطأ" ارتكبته السلطة.
حتى قبل الانتخابات تفاقم انزعاج التونسيين من أصحاب الكفاءات، بمن فيهم من يحملون الجنسية الفرنسية، من صعود التطرف اليميني في المجتمع. بل إن الكثير منهم أصبحوا يعدّون العدة للهجرة نحو بلدان أخرى، بعدما داهمهم الإحساس بأن فرنسا التي يحملون جنسيتها لم تعد المكان الأمثل لهم لتحقيق أهدافهم المهنية ولتنشئة أبنائهم.
ورغم نتائج الدور الثاني للانتخابات الأخيرة في فرنسا، فإن صعود أقصى اليمين إلى سدة الحكم يبقى احتمالاً مؤجلاً. وتبقى مخاوف تونسيّي المهجر الفرنسي قائمة.
قادة حزب "التجمع الوطني" مقتنعون بأنهم سوف يرتقون إلى سدة الحكم في فرنسا خلال أعوام قليلة. في انتظار ذلك بدأوا بعض المراجعات. ولكنها مراجعات ترمي فقط إلى عدم تكرار "الأخطاء التنظيمية" التي جعلت بعض مرشحيهم يكشفون عن نعراتهم العنصرية قبل الأوان. أما مواقفهم الأساسية فليس من المرجح أن تتغير كثيراً. وسوف يكون من ضمنها التضييق على المهاجرين التونسيين وترحيل من يستطيعون ترحيله بغض النظر عن انعكاسات ذلك على استقرار تونس وأمنها.
في هذا السياق، تبدو المراجعات الاستباقية ضرورية بالنسبة إلى التونسيين أيضاً. فصعود التيارات المعادية للأجانب ظاهرة لن تفقد زخمها قريباً في الغرب، ما يعني أن التعويل على الهجرة سيواجه الكثير من التعقيدات في المستقبل وسيخيب أمل من يرى فيه الحل الوحيد للأزمات التي تواجهها تونس.