رصاصة بنسلفاينا حولت دونالد ترامب إلى شهيد حي، وقد انعكس ذلك بوضوح على مؤتمر الحزب الجمهوري المنعقد في ميلووكي والذي زكى بالإجماع ترشيح ترامب وصادق على اختياره للسيناتور جيمس ديفيد فانس لمنصب نائب الرئيس، وهو يمثل استمرارية للحالة الترامبية داخل الحزب الجمهوري وداخل أميركا إذا نجح ترامب في العودة إلى البيت الأبيض. محاولة الاغتيال الفاشلة حولت ترامب إلى قديس من وجهة نظر أنصاره، وبالتأكيد أنها قد تزيده قوة في جانب الأصوات المترددة، تحديداً في الولايات المتأرجحة، وخصوصاً في حالة استمرار إصرار بايدن على الترشح أو في حالة تأخره في اتخاذ قرار الانسحاب.
لا يخفي ترامب عداءه لمؤسسة الحكم وذلك منذ حملته الانتخابية الأولى سنة 2016، وقد نجح الرجل في بسط صورة جديدة لسياسي غير تقليدي هاجم الإعلام والأوليغارشية ونخبة واشنطن ومؤسسة الحكم، وفي الأخير نجح في دخول البيت الأبيض. وفي حفل تنصيبه رسمياً رئيساً للولايات المتحدة الأميركية قال: "لزمن طويل جداً، قطفت مجموعة صغيرة في عاصمة أمتنا ثمار الحكم في حين تحمل الشعب الثمن. ازدهرت واشنطن لكنّ الشعب لم يشاركها ثروتها. ازدهر السياسيون لكنّ الوظائف انعدمت والمصانع أغلقت. لقد حمت مؤسسة الحكم نفسها لكنها لم تحم المواطنين ولا بلادنا. لم تكن انتصاراتهم انتصاراتكم، ولا نجاحاتهم نجاحاتكم. وبينما كانوا يحتفلون في عاصمة أمتنا، لم تكن العائلات المكافحة في طول بلادنا وعرضها تجد إلا القليل لتحتفل به".
سردية ترامب حول مؤسسة الحكم والنخب الأوليغارشية جذبت كثيرين ممن كانوا بحاجة إلى زعيم قادر على مواجهة ماكينة صنع نخب على المقاس في الحزبين التقليديين، وكيف تحول إلى أيقونة لتيار شعبوي واسع كان بحاجة إلى زعيم عادي يشبههم. إن الاستقطاب الذي تعرفه الشعبوية في السنوات الأخيرة كمجال للبحث لتفسير تفكيك عدد من الوقائع والمواقف السياسية، إنما يعود إلى نظرتهم إلى الشعبوية كما تقول ناديا أوربيناتي في كتابها الهام "أنا الشعب – كيف حوّلت الشعبوية مسار الديموقراطية"، ليس بوصفها مجرد عرضٍ لإعياءٍ بسبب مؤسسة الحكم والأحزاب الراسخة، بل كذلك بوصفها دعوة مشروعة للسلطة من الناس العاديين الذين أخضعوا "لسنوات للدخل المتدني والنفوذ السياسي". هذا الأمر يفسر درجة الانقسام الكبيرة التي يعرفها المجتمع الأميركي المؤطر بكمّ هائل من خطاب الكراهية في إطار منظومة سياسية إعلامية طاحنة وبلا رحمة، هي أقرب إلى برامج تلفزيون الواقع القائم على التحريض والتحريض المضاد. هذا الأمر يؤكد أن هناك تحولات عميقة تعرفها قواعد اللعبة الديموقراطية التي استقرت في الممارسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يدفع إلى ضرورة بحث هذه الظواهر الجديدة والتي تعبر في أحد وجوهها عن شيخوخة زاحفة على نموذج الديموقراطية التمثيلية، وعدم إغراء الخطابات التقليدية في كسب المعارك الانتخابية التي أصبح دورها محدوداً.
يبدو أيضاً أن الغرب، وبصفة أساسية الولايات المتحدة الأميركية، يدفع اليوم ثمناً كبيراً لـ"تبضيع" العمل السياسي والمنافسة الانتخابية، من خلال الهيمنة الكبيرة لوسائل الإعلام الجماهيرية على صناعة الرأي العام، وتركيزها المفرط على الجوانب الاحتفالية في العملية الانتخابية، على حساب المضمون والمشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإسقاط مناهج وأساليب التسويق التجاري على التنافس السياسي... وهو ما أثر في الإدراك العام وفي قدرة الرأي العام على التمييز بين الخطابات الشعبوية المتداولة، حيث يتم التركيز فقط على الجوانب الشخصية، ما يعزز مناخ الكراهية الذي تمثل محاولة اغتيال ترامب نموذجاً له.
تقول ناديا أوربيناتي "ثمة قطعاً أسباب ثقافية واقتصادية واجتماعية أصلية لنجاح المقترحات الشعبوية في ديموقراطيتنا. في وسعنا ادعاء أنّ نجاحاتها بمكانة اعتراف بأن الديموقراطية الحزبية قد أخفقت في تحقيق الوعود التي قطعتها الديموقراطيات الدستورية بعد 1945".
لا بد من التذكير هنا أن هناك وعدين من بين الوعود غير المحققة يعملان على وجه الخصوص لمصلحة النجاحات الشعبوية: أولهما تنامي اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، إذ لن تكون هنالك فرصة للسواد الأعظم من السكان للتطلع إلى حياة اجتماعية وسياسية كريمة، أو أن هذه الفرصة ضئيلة، وثانيهما تنامي أوليغارشية مستفحلة وجشعة تجعل السيادة سراباً. وتخلص أوربيناتي إلى أن هذين العاملين يتداخلان؛ "ليشكلا انتهاكاً للوعد بالمساواة، ويجعلان الديموقراطية الدستورية بحاجة ماسة إلى إجراء تأمل ذاتي نقدي حول إخفاقها في وضع حدٍّ للسلطة الأوليغارشية".
هذه الوعود غير المحققة هي مصدر الازدواجية بين الأقلية المتنفذة والأكثرية، والأيديولوجيا المناهضة لمؤسسة الحكم التي هي الشعبوية. بناء عليه ينبغي "أن ننظر إلى الشعبوية بوصفها تحوّلاً في ركائز الديموقراطية الحديثة الثلاث: الشعب ومبدأ الأغلبية والتمثيل".
إن الأمر الأكثر أهمية هو تحول وظيفة الانتخابات عند التيارات اليمينية والشعبوية، بحيث تصبح العملية الانتخابية بالضرورة مجرد تأكيد اختيار شخص أو تيار بعينه بدل أن تكون تجسيداً لحرية الاختيار. عبّر عن ذلك بوضوح الجنرال خوان دومينغو بيرون بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين عام 1946، عندما قال: "لقد منحنا الشعب فرصة الاختيار. انتخبنا الشعب، وهكذا حلّت المشكلة".
ويمثل ترامب والتيار الملتف حوله نموذجاً لرفض الوظيفة التأكيدية للانتخابات، وقد عبّر عنها الأربعاء الأسود أبلغ تعبير، لحظة اقتحام مبنى الكونغرس ورفض الاعتراف بالنتائج.