في قصر بلينهايم التاريخي في مقاطعة أكسفورد شاير، كان اللقاء. استضاف فيه كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني بعد أسبوعين من تسلمه مقاليد الحكم 47 من الزعماء الأوروبيين الخميس الماضي المشاركين في القمة الرابعة لـ "المجموعة السياسية الأوروبية".
ولعل اختيار المكان حيث رأى النور ونستون تشرشل، الذي أنقذ الإمبراطورية البريطانية من نهاية مأساوية، لم يأت عبثاً. فستارمر، هو الآخر، عازم على إنقاذ علاقات بلاده مع جيرانها التي كادت توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد عشر سنوات عجاف. وبدلاً من الرفض، للرفض بذاته، على طريقة أسلافه المحافظين المتشددين، أخذ على عاتقه "إعادة ضبط" صلات بريطانيا بجيرانها، وتعزيز انتمائها إليهم وانتمائهم إليها. وأعلن رئيس الوزراء الجديد بداية جديدة مع أوروبا على أصعدة شتى تبدأ بالدفاع والأمن ولا تنتهي بالهجرة وأمن الطاقة.
كانت أجندة الملتقى حافلة، إذ وفر فرصة "لمناقشة بعض أكثر القضايا التي تواجه هذ الجيل في أوروبا إلحاحاً "، بحسب ما جاء في بيان للخارجية البريطانية. و"المجموعة" ولدت قبل عامين على يد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للتصدي لموضوعات استراتيجية من الوزن الثقيل، بشكل دوري. غير أنها ليست معنية بإصدار تشريعات أو تحريك جيوش أو حتى إصدار بيانات.
واحتلت أوكرانيا، التي "تشكل تهديداً خطيراً لأمننا جميعاً" على حد تعبير الزعيم البريطاني، صدارة المداولات في اجتماعات جلس فيها الرئيس فلوديمير زيلينسكي إلى يمينه. أما الهجرة، فكان لها نصيب محترم من وقت المشاركين الذين تدارسوا سبل كبحها. كما بحثوا قضايا الدفاع وطرق تعزيز التواصل والتعاون التجاري.
أما السياسات الدفاعية فكانت محل اهتمام الجميع في الأيام الأخيرة. وقد بدأ ستارمر، كما يبدو، إعادة تموضع بريطانية في هذا المجال. وعدا عن رفع موازنة الانفاق الدفاعي أطلق وزير الدفاع الأسبق جورج روبرتسون المكلف الإشراف على المراجعة الدفاعية لعام ٢٠٢٤، تصريحاً مفاجئاً حذر فيه من تعرض بلاده وحلفائها إلى التهديد من قبل "الرباعي المميت: إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين". وأعرب رئيس الوزراء في سياق قمة الناتو عن رغبته برؤية الصواريخ البريطانية تضرب العمق الروسي، ما بدا نوعاً من المغالاة في الحث على تأجيج الصراع بدلاً من السعي لإخماده! فهل كان يحاول، على طريقة الزعماء البريطانيين، إثبات حسن نيته لواشنطن بالتمسك بسياساتها ربما أكثر منها؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذه المحاولة ميتة في المهد إن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كما هو مرجح. زيادة الانفاق الدفاعي الأخيرة أقل مما يرضيه، ولن يُسرّه الاندفاع لإذكاء النار الأوكرانية!
هذه العودة سلّطت الضوء على غياب وحدة الصف اللافت على الرغم من التشديد عليها من قبل المشاركين. وفيما كان زيلينسكي، يهنئ زملاءه لأن "بوتين لم يفرقنا"، كان فيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري، صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصدوق، يتباهى في طرف القاعة بقرب انطلاق الولاية الثانية لترامب ونائبه جي دي فانس الأكثر شراسة منه في معارضة استمرار بلاده في مساعدة كييف.
المناقشات بشأن الهجرة، لم تشهد هي الأخرى توافقا على مواقف محددة من هذه الورطة، التي قال ماكرون إن لا حل سحرياً لها بين ليلة وضحاها. وأكد رفض بلاده إعادة اللاجئين المتسللين عبر أراضيها أو مياهها إلى دول أخرى، كما كانت حكومات المحافظين في لندن تلح لسنوات. وأثنى الزعيم البريطاني على مشروع دراسة ملفات المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى إيطاليا في ألبانيا، مع أنه انتقد محاولة حكومات المحافظين حل مشكلة المهاجرين في دولة ثالثة، وألغى مشروع ترحيلهم إلى راوندا!
لكن في نهاية المطاف، لم يأتِ الملتقى الذي يكافح للبقاء، بجديد. ولعل حماس الزعيم البريطاني لإعادة تصويب علاقات بلاده مع أوروبا وتمسكه بـ "المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان" التي دأب المحافظون المتطرفون على المطالبة بالانسحاب منها، كانا أهم التطورات في القمة. وهي مثلت مناسبة استثنائية ثانية له، بعد قمة الناتو في واشنطن، لتبادل الرأي مع قادة الغرب.
لم يتسرع هو أو ديفيد لامي وزير خارجيته، بالحديث عن إعادة التفاوض على اتفاقية البريكست التي وضعها سلفه بوريس جونسون. إلا أنه عازم على تعديل الاتفاقية التي وصفها بـ "الرديئة". الترحيب المشوب بالارتياح حيال التغيير الجذري في علاقة بريطانيا مع جيرانها من قبل أولاف شولتز المستشار الألماني وبيدرو سانشيز رئيس الوزراء الاسباني، علاوة على الود الذي أبداه ماكرون تجاه ستارمر، يوحي أن الوقت لن يطول قبل البدء بتفكيك المشاكل الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد.
ولا يستبعد أن ينطلق قطار لندن في رحلة العودة التدريجية إلى الحضن الأوروبي، حالما تم اختيار فريق المفوضين الأوروبيين الجدد بعد فوز أورسولا فون دير لاين بولاية ثانية على رأس المفوضية، قبيل انتهاء القمة مساء الخميس. والأرجح أن بريطانيا لن تستعيد عضويتها الكاملة للاتحاد وإنما ستتوصل إلى صيغة تعاون وتنسيق عميقين مع دول الاتحاد الأوروبي.
لا شك أن القادة ناقشوا وراء الأبواب المغلقة قضية وصوله هو وفانس إلى السلطة، فهذا هاجس يؤرق زيلينسكي، خصوصاً، ومعظم زعماء أوروبا. بيد أن الحديث عن هذا الاحتمال في العلن كان مقننا، وتولى مقاربته بتفاؤل وواقعية واضحين ينيس ستوتنيبرغ، الأمين العام لحلف الناتو. وشدد السياسي الذي يغادر منصبه في غضون أشهر، على الموقف الدبلوماسي المعتاد القائل سنتعاون مع الفائز في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) كائناً من كان. لكن لا يستبعد أن يسبب المرشح الأوفر حظاً للفوز بالبيت الأبيض، الصداع للناتو، نظراً لتهديداته والتكهنات بأنه سيحاول نسف الحلف الذي يعادي حليفه بوتين.
وخلافاً لأوكرانيا، غابت غزة عن الملتقى، ما خلا إشارات خفيفة هنا وهناك، كما ابتعد عنه رجب طيب أردوغان الرئيس التركي مرة ثالثة.