ليست الحرب الإسرائيلية على غزة وحدها التي انتقلت إلى المرحلة الثالثة فحسب، بل انتقلت الحرب مع "حزب الله" في لبنان هي الأخرى إلى هذه المرحلة أيضاً!
المرحلة الثالثة في غزة تقوم على حرية استهداف مقاتلي "حماس" وقياداتها، من دون الحاجة إلى عمليات عسكرية لاحتلال المواقع الكثيفة سكانياً، الأمر الذي يتيح للجيش الإسرائيلي تخصيص قوات بريّة صغيرة مقارنة بتلك التي حجزها، منذ بدء العملية البرية في آخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. المرحلة الثالثة في لبنان، وإن تقاطعت تكتيكاتها العسكرية مع نظيرتها في غزة، إلّا أنّها تختلف عنها جوهرياً، لأنّ ما سوف يحصل في غزة هو تخفيض منسوب الحرب، في حين أنّها في لبنان، ستكون عكسية، بحيث يتم تصعيد منسوب الحرب.
وليست هناك جهة قادرة على فهم ما تخطط له إسرائيل أكثر من "حزب الله" الذي يخصص موارد بشرية وتقنية ومالية كبيرة لجهاز مهمته "التعرف إلى العدو"، ولذلك فإنّ الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله كان يصب في إطار ثني إسرائيل عن الإمعان في الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" من الحرب معه، فأكثر من تهديداته، ومن تقديم تفاصيل بالخسائر التي يمكن أن تلحق بإسرائيل جرّاء "هذه الحماقة" المنتجة لحرب واسعة لم تعد تتناسب، وفق نصر الله، مع قوة إسرائيل البشرية والتسليحية والسياسية والاقتصادية والمالية والشعبية.
ولكنّ إسرائيل أهملت "نصائح" نصر الله وبدأت، بعيد خطابه العاشورائي، المرحلة الثالثة، بحيث لم تكثف الاغتيالات فحسب، بل ذهبت إلى ملاجئ المقاتلين المحاطة بالمدنيين، كما حصل في استهداف المبنى السكني في الجميجمة الجنوبية، أيضاً.
وبذلك تكون إسرائيل قد لبّت استدعاء نصر الله لها إلى حرب أوسع من تلك التي يخوضها الطرفان منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تاريخ انضمام "حزب الله" إلى "حرب طوفان الأقصى"، وأسقطت كل "قواعد الاشتباك السابقة" بما فيها تلك التي صاغها ما يسمى بتفاهم نيسان الذي يعود إلى عام 1996 حين تمّ الاتفاق على التحييد الكامل للمدنيين، في لبنان وإسرائيل، عن المواجهات العسكرية.
وللمرة الأولى، حددت القيادة الإسرائيلية خطة تعاملها بوضوح، مع الجبهة الشمالية، إذ خيّرت "حزب الله" بين توسيع الحرب من جهة وسحب قواته ومعداته العسكرية إلى ما وراء شمال نهر الليطاني، من جهة أخرى، باعتبار أنّه خطر إيراني متقدم لا يمكن التهاون معه، مهما كانت الخسائر، لأنّ ما يُراد تجنبه اليوم سوف تكون أثمانه مضاعفة غداً، إذ إنّ "الهدف الإيراني"، من وراء "وحدة الجبهات" هو تدمير إسرائيل، وفق تقييمات علنية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
وللمرة الأولى، أيضاً، سمحت الرقابة العسكرية، للقناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي، بنشر تحقيق يركز على "بنك الأهداف" الذي وضعه الجيش الإسرائيلي في حربه المقبلة على لبنان، بهدف تحويل صورة نصر الله من "البطولة" التي ينشدها لنفسه إلى "الرعونة" التي تريدها له إسرائيل، إن لم يكف "شرّه" عنها.
وللمرة الأولى أيضاً وأيضاً، يتم إدخال القيادة المركزية للجيش الأميركي في تفاصيل الجبهة الشمالية، إذ كان قائد المنطقة الشمالية أوري غوردين مشاركاً في الاجتماع الذي عقده رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي مع الجنرال الأميركي مايكل أريك كوريلا.
وتوقيت قرار إسرائيل تنفيذ إجراءات نقل المواجهة إلى المرحلة الثالثة، ليس عبثياً، فهو إذ يتزامن مع تخفيض المجهود العسكري في غزة، ومع تصاعد شروطها الخاصة بمفاوضات الهدنة في القطاع الفلسطيني، يأتي أيضاً مع استعداد رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو للقيام بزيارة العمل لواشنطن التي تضعف فيها سطوة الرئيس "الصعب" جو بايدن في مقابل صعود قوة دونالد ترامب، صاحب شعار "اتركوا إسرائيل تنهي مهمتها بسرعة".
وتتقاطع رؤية ترامب الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لهذه الجهة مع رؤية "صديقه السابق" نتنياهو الذي سبق أن طالب بايدن بعدم الوقوف في وجه إسرائيل لإنهاء المهمة التي كانت قد بدأتها في غزة واضطرت إلى بدئها في لبنان.
المرحلة الثالثة من التعامل الإسرائيلي مع الجبهة اللبنانية محفوفة بالمخاطر، لأنّها تحمل في ذاتها كل عناصر "التدحرج"، فـ"حزب الله" لن يصمت على استهداف مقاتليه، أينما كانوا وأياً كانوا، فيما لن تستوعب إسرائيل التي تريد أن تعيد سكان الشمال إلى منازلهم، قبل حلول شهر أيلول (سبتمبر) المقبل، رد الحزب باستهداف بنيتها التحتية المدنية.
وهذا التصعيد من شأنه أن يفتح ثغرة في دائرة المفاوضات المغلقة الهادفة إلى بلورة حل دبلوماسي للجبهة الشمالية، ولكن المفاوضين أصبحوا أكثر ضعفاً، مع اضطرابات لحقت بإمساك إيمانويل ماكرون بحكم فرنسا وبجو بايدن في الولايات المتحدة الأميركية، ومع رمي إسرائيل الأمانة العامة للأمم المتحدة "خارجاً"، في ضوء "شيطنة" أمينها العام أنطونيو غوتيريش، فيما أصبح "المتقاتلون" أكثر عدائية!
والأخطر في كل ما يحصل، مع دخول الجبهة اللبنانية في المرحلة الثالثة، أنّ إسرائيل "لا تستطيع أن تخسر" و"حزب الله" لا يقبل "إلّا أن ينتصر".