هل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واعٍ لتداعيات ما يمكن أن يحدثه قراره بحلّ الجمعية الوطنية؟ ربما كان واعياً، ولكن ما دخلته فرنسا للتو أزمة غير مسبوقة، يمكن أن تحدث تحولاً جذرياً في شكل النظام وفي طريقة إدارة السلطة في بلدٍ عاش طويلاً في استقرار فرضته الطبيعة الرئاسية لنظامه. أفرز الحلّ الانتخابي تعقيداً مضاعفاً. لتجد البلاد نفسها تنتقل من برلمان يحقق فيه الرئيس أغلبية غير مطلقة، إلى حالة من تنافس الأقليات السياسية داخله. فقد أدى انهيار القاعدة الاجتماعية للماكرونية لصالح اليمين المتطرف والتحالف بين القوى اليسارية إلى ظهور تكوين غير مسبوق في الجمعية، مما وضع الجمهورية الخامسة أمام اختبارها الأصعب... لقد تم بناؤها للتغلب على عدم الاستقرار الحكومي الذي ميز فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ضمنت استقراراً قوياً في العقود الأخيرة، وذلك بفضل مؤسساتها البونابرتية التي تفضل هيمنة الأغلبية وتجعل من الممكن الحكم في حالات التعايش. وكذلك الاستقرار الذي عززه الظهور التدريجي لسياسة الحزبين منذ عام 1981، والذي مكّن، من خلال التناوب بين اليمين واليسار، من توجيه التوترات السياسية والاجتماعية على أساس مؤسسي.
باكراً ومنذ مطلع القرن شكل صعود حزب الجبهة الوطنية ونكسة الحزب الاشتراكي، تعبيراً قوياً عن مقدمات أزمة الأحزاب التقليدية، فقد تعمقت هذه الأزمة في ما بعد نتيجة للانقسام داخل الحزب الاشتراكي، بعد الاستفتاء على المعاهدة الدستورية الأوروبية في عام 2005، واستمرار صعود اليمين المتطرف وانهيار الحزب الاشتراكي ثم الجمهوريين اعتباراً من عام 2016، على خلفية ظهور نتائج السياسات الاقتصادية الكارثية، لكن هذه الأزمة تم احتواؤها في عام 2017 من خلال ظهور الماكرونية في محاولة تبدو أخيرة لإنقاذ النظام. إنما ما نعيشه اليوم من فقدان الرئيس لزمام المبادرة السياسية وعزلته عن البرلمان، الذي بات حاكماً فعلياً، يكشف عن أن الماكرونية بوصفها حلاً، لم تكن ناجعةً كما ينبغي، سيما لقطاع واسعٍ من الرأسمالية الفرنسية. ومع ذلك فإن حلولاً هشةً من نوع حكومة أقلية يسارية، أو تحالف أقلية بين الماكرونية واليمين التقليدي، أو حكومة ائتلافية بين قوى سياسية مختلفة، أو حكومة تكنوقراطية، لا تزال ممكنةً ومطروحةً، ولكن لا يبدو أن تحقيق أيّ منها سهل، أو يمكن أن يكون منقذاً للنظام. في المقابل لا يزال إيمانويل ماكرون يحاول إعادة تأكيد دوره كوسيط من خلال السعي إلى فرض احتمال تشكيل ائتلاف جمهوري، فإن فقدان مصداقيته القوي للغاية يحد من قدرته على متابعة مثل هذه المناورة، ويمكن أن يفتح المجال أمام الطريق إلى أزمة مؤسسية في حال عدم قدرة أي قوة سياسية على الحكم. وكما لخص رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان، مؤخراً، فإن "أحد المخاطر (...) هو أن يدرك الجميع أن لا أحد منهم – يساراً ويميناً - لديه مصلحة في قيادة هذه الحكومة، وأن الرئيس يمكن يجد نفسه في مواجهة الفوضى". وهو ما يعني الاستقالة.
لكن هذه التفاصيل الدقيقة للمسارات المستقبلية للحكومة والحكم، تحجب أحياناً، بسبب السياسوية الضيقة، جذور أزمة الديموقراطية الفرنسية. والسؤال الأساسي اليوم، بعد ثلاث جولات تصويت لم تجد لها صدى شعبياً واضحاً في شكل السلطة: هل من الممكن أن تقتصر الديموقراطية على الانتخابات وحدها؟ وفي الوقت الذي يطالب ثمانية من كل عشرة فرنسيين – وفقاً لاستطلاعات الرأي المنشورة - بمزيد من المشاركة في الحياة الديموقراطية، فإن الطبقة السياسية تذهب في كل مرةٍ إلى الشعب لطلب أصواته، وفي كل مرة يعودون إلى مؤسسات السلطة لإجراء تسويات ومراوغاتٍ تقف ضد إرادة الناخبين. وفي كل مرةٍ يتراجع الحماس الشعبي للديموقراطية التمثيلية ويرتفع منسوب الغضب، وكل ذلك يصب عملياً وانتخابياً في جراب اليمين المتطرف، وكل نزعات القومية الشعبوية. ويبدو أن مكمن المرض الديموقراطي الفرنسي هو الانجراف البيروقراطي – الأوليغارشي الذي تعانيه منذ عقود، وقد تعمق على نحو كبير في عهد الماكرونية، التي مثلت التحالف الأوسع بين البيروقراطية والأوليغارشيا المالية والسياسية. في المقابل لم يعد المحكومون الناخبون يثقون في الديموقراطية لأنهم يرون أنهم لا يملكون السلطة. وهم في الواقع لا يحكمون، مع شعور عميق بالعجز السياسي. فالوصول إلى المناصب غير متكافئ إلى حد كبير: فمن دون الثروة الشخصية، ومن دون الرأسمال الاجتماعي والثقافي أو دعم حزب سياسي، فإن فرص الفوز بالانتخابات تكاد تكون معدومة. ومن ثم يقتصر دور الناخب على دور المتفرج الذي لا يتناسب مع نموذج الحكم الذي تدعي الديموقراطية وجوده.
وكما يذهب فرانسوا فاتشيني في دراسته عن "أزمة الديموقراطية التمثيلية"، فإن الانحراف البيروقراطي هو نتيجة للوضع الخاص للغاية الذي يتمتع به الموظفون العموميون في الأنظمة الديموقراطية. إنهم في الوقت نفسه ناخبون ومسؤولون منتخبون ومجموعات مصالح ووكلاء يخدمون الحكومات. وتزداد قوتهم الانتخابية بزيادة عددهم. وإذا كان المسؤولون العموميون أكثر عدداً ويمتنعون عن التصويت أقل من غيرهم، فإن وزنهم الانتخابي يزداد على نحو مستقر. في فرنسا، يمثل الموظفون العموميون 14% من المسجلين في الانتخابات التشريعية اليوم، مقارنة بـ 8.7% في عام 1945 و3.6% في عام 1871. والمسؤولون العموميون ليسوا مجرد ناخبين، فهم أيضاً برلمانيون، حيث يخلق وجودهم المهم كماً ونوعاً في جمهور الناخبين الظروف الملائمة لتمثيلهم المفرط في البرلمان، وفي نهاية المطاف في الحكومات. كما يتمتع هؤلاء الموظفون العموميون بموقع مهم في الحكومة، إذ جاء 58% من الوزراء وكتاب الدولة من الخدمة المدنية. وهم أيضاً نقابيون، ويمكن لنقاباتهم أن تمنع الإصلاحات التي قد يكون لها آثار مفيدة على البلاد، ولكنها قد تؤدي إلى تدهور ظروف معيشتهم المادية. وهذا التمثيل المفرط للعنصر البيروقراطي، في الحياة السياسية يجعل خطر الانتهاكات البيروقراطية ذا مصداقية.