أدرك الإصلاحيون الإيرانيون من خلال مراقبتهم أداء حكومة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، أن تلك الحكومة المحافظة أقرت بأهمية الحوار مع الغرب لمساعدة إيران على الخروج من عزلتها، وكذلك من أجل إبعاد شبح العقوبات الدولية عن اقتصادها، وإلا ما كان رئيسي ينتهج سياسة الأولوية لدول الجوار بالتزامن مع استئناف المحادثات النووية مع الولايات المتحدة الأميركية التي حصلت طهران بموجبها على اتفاق موقت غير معلن، ساعد الحكومة الثالثة عشرة على العودة إلى حجم صادرات النفط إلى ما قبل العقوبات، بفضل التغاضي الأميركي عن أساطيل الظل وأباريق الشاي التي تبحر من إيران إلى ماليزيا نحو الصين حاملة النفط الرخيص!
لكن لدى الإصلاحيين أيضاً نظرة واقعية تشكلت بعد تجربة حكومة رئيسي، فتصريحات الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان المتكررة عن أهمية دعم محور المقاومة، وكذلك لقاؤه أسرة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الذي اغتالته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المحتملة عودته مجدداً إلى البيت الأبيض، والذي أيضاً لم يكن على وفاق مع محمد جواد ظريف، وزير الخارجية السابق والذراع اليمنى للرئيس الإصلاحي بزشكيان، كل ذلك يشير
إلى أن بزشكيان لا ينتهج سياسة براغماتية لطمأنة معسكر المرشد فحسب، بل إن الرئيس الإصلاحي تشكلت لديه قناعة أيضاً بالاستمرار في سياسة "المرونة البطولية"، وإلا سيدخل في صدام يعطل عمل حكومته من جانب قوى صناع القرار في إيران.
وقد تلقى بزشكيان تحذيراً يوم الجمعة الماضي، 19 تموز (يوليو)، بلسان خطيب جمعة طهران سيد محمد حسن أبو ترابي فرد، الذي قال مخاطباً رئيس الحكومة الرابعة عشرة: "إن مهمة السلطات الثلاث، ومنها الحكومة التنفيذية، هي العمل في إطار السياسات العامة التي تضعها مؤسسة المرشد الأعلى". أي إن السياسة الخارجية التي تنتهجها حكومة بزشكيان يجب أن تتم في إطار موافقة المرشد.
وربما يسعى النظام أيضاً إلى تمرير رسالة مهمة إلى بزشكيان تتعلق بالرئيس الإصلاحي حسن روحاني، الذي كان يراهن على قوة أصوات الشعب الذي انتخب حكومته في إحداث تغيير في الداخل والخارج، حتى أنه طالب بتفعيل الدستور باللجوء إلى آلية "الاستفتاء" لحل القضايا الخلافية التي تتعلق بمصير الشعب الإيراني، لكنه عجز عن تحقيق ذلك.
يبدو أن حكومة بزشكيان ستكون مضطرة إلى الالتزام بنهج حكومة رئيسي مع فارق محاولة التوازن بين الشرق والغرب، فتصريحات القائد العام للحرس الثوري حسين سلامي، بأن الحكومة الثالثة عشرة كانت إلى جانب الحرس الثوري في ساحة المقاومة هي رسالة إلى الحكومة الجديدة قبل أن تكون إطراءً للرئيس الراحل.
مسار واقعي
كثيراً ما يتحدث بزشكيان عن الوحدة والسلام والحوار والعمل معاً، لكن هذا الخطاب الناعم لا يعني أنه قد يستطيع التمرد على الواقع بالكامل، فإشادة خطيب جمعة طهران بهجوم جماعة الحوثي بطائرة مسيرة على تل أبيب، وتعليقه بأن تلك المُسيّرة ضربت هدفاً بالقرب من السفارة الأميركية مؤشرٌ إلى أن الهدف مقصود وأن العملية رسالة تحذيرية للولايات المتحدة، وأن بزشكيان قد يجد نفسه في مواجهة مرغم عليها مع إدارة البيت الأبيض، بخاصة إذا ما عاد دونالد ترامب. وهذا الأمر تكرر من قبل مع حكومة روحاني التي دفعها الحرس الثوري إلى المواجهة مع القوى الغربية بتصريحات نارية بعدما ذهب إلى سوريا إلى جانب روسيا!
كما أن سياسة إدارة ترامب المنتظرة قد تدفع حكومة بزشكيان إلى الالتزام بهذا المسار الواقعي، وإن كان المحيط الإقليمي حول إيران قد تغير كثيراً عما كان عليه إبان ولاية ترامب السابقة، ما يعني وجود ضرورة في تغيير معادلة التعامل مع إيران، بخاصة أن إدارة ترامب المنتظرة ستركز على ملفي أوكرانيا واستكمال مسار التطبيع وكلاهما يحتاجان للتعامل مع طهران!
لكن ترشيح ترامب للسيناتور الجمهوري جيمس ديفيد فانس، نائباً له، علامة رعب من احتمال الدخول في صدام مسلح مع إيران، بخاصة أنه من أنصار شعار الترامبية "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" الذين يستفيدون من الحروب والتوترات العسكرية في تجارة السلاح، فقد خرج فانس بتصريحات نارية تجاه إيران كانت بمثابة إعلان حرب عليها!
توقيت سيئ
أيضاً، لا يسعف الوقت بزشكيان، فالبيت الأبيض مشغول بالانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولا يمكن الرهان على إدارة مصيرها غير معلوم، حتى يتم التوصل إلى اتفاق نووي مستقر وقابل للتنفيذ. كما أن ترامب الذي تطارده إيران لأخذ ثأر سليماني، استطاع أن يوظف حادثة محاولة اغتياله بما يعزز من حظوظ فوزه، فهو عدّل من خطابه الانتخابي الذي كان يستهدف منافسه الديموقراطي جو بايدن، وبات يقدم شخصه رمزاً للوحدة والقوة الأميركيتين، وأن لا سبيل لإعادة الأمن في الداخل والخارج إلا بعودته لإنهاء الاضطرابات في العالم!
أما إدارة بايدن التي هي حريصة على التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، فلا تزال تحافظ على تبرير رؤيتها بأنه لا سبيل إلا الحوار والمحادثات مع إيران لضمان تحييدها عن الوصول إلى السلاح النووي. ولذلك تستمر في رسائلها المتبادلة مع طهران، فقد كشف موقع "أكسيوس" الأميركي عن رسالة من واشنطن حذرت فيها طهران من تغيير عقيدتها النووية بعد رصد أنشطة نووية مثيرة للشكوك.
كذلك حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام "منتدى أسبن" الأمني، الجمعة الماضي، من أن الوقت اللازم لإنتاج إيران المواد اللازمة لتصنيع السلاح النووي بات أسبوعاً أو أسبوعين، بدلاً من عام، بسبب ترامب الذي غادر الاتفاق النووي عام 2018.
وكل هذه التحذيرات هدفها مواجهة ترامب والتحذير من سياسته المقبلة. وكذلك رسالة أيضاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن عليه أن يدرك أن المنطقة قد تغيرت منذ رحيل ترامب، ويجب عليه ألا يراهن على عودته، بخاصة أن خطاب نتنياهو المنتظر الأربعاء المقبل أمام الكونغرس الأميركي يقلق إدارة بايدن بشدة!
والمحصلة، إن كان نتنياهو لا يدرك أن المعادلة تغيرت، فإن إيران التي شاهدت وحشية الحرب في غزة لن تتراجع عن استراتيجية العتبة النووية التي تحصلت عليها خلال سياسة "خفض الالتزام النووي" التي اتبعتها منذ تعطل الاتفاق النووي، وهو أمر سيواجه بزشكيان في أي مفاوضات مقبلة.
وكذلك، إن كان بزشكيان حريصاً بشدة على التوازن في العلاقات الخارجية من أجل دعم النمو الاقتصادي لبلاده المهدد بالتراجع عن معدلات حكومة سلفه، إذا ما عاد ترامب واستعاد سياسة "أقصى ضغط" من العقوبات التي فرضها على إيران من قبل، وإذا ما سمح لإسرائيل بملاحقة سفن النفط الإيرانية، فإنه قد يكون مضطراً في النهاية إلى الالتزام ببطولة المقاومة ومرونة الحوار مع الأوروبيين بدلاً من إدارة ترامب المتشددة!