ليست فضيحة الطلبة العراقيين في لبنان إلا أحد تجليات انهيار التعليم في العراق. جانبياً زُج بلبنان شريكاً مستفيداً، غير أن جوهر الحكاية يكمن في أن وزارة التعليم العالي العراقية التي استبدلت بقسم أبقراط لمتخرجي الكلية الطبية دعاء كميل لم تعد معنية بالحفاظ على المستوى العلمي بقدر عنايتها بإنشاء جيل متشدد عقائدياً في إمكانه أن يتصدى لأي محاولة للتنوير.
شيء من الدعابة السريالية السوداء تسلل بطريقة صادمة إلى نظام التعليم الذي انتهى إلى أن يكون نوعاً من التلقين الذي يفقد فيه العلم خصائصه من خلال الولاء المطلق لإيران. لقد تسبب نظام المحاصصة الطائفية والحزبية بكارثة عنوانها التخلي عن الكفاءات العراقية وعدم الاستعانة بها في إدارة الدولة التي يُفترض أنها تُقام على أنقاض الدولة التي حطمها الغزو الأميركي. فعلى سبيل المثال كانت وزارة الصحة ولسنوات طويلة من حصة التيار الصدري، وهو الزمن الذي شهد انهياراً للقطاع الصحي وصل به الفساد إلى درجة فرض مبالغ نقدية لقاء زيارة المرضى. كانت فضيحة الأحذية الطبية التي عُرفت بـ"نعال عديلة حمود" أكثر رخصاً على المستوى الأخلاقي من أن يتم اعتبارها خطأً فنياً أو سوء تصرف. بـ"900" ألف دولار كان في الإمكان بناء عشرين مستوصفاً طبياً بدلاً من شراء نعل برتغالية تبين أن السعر الحقيقي للواحد منها هو دولاران فيما اشترته الحكومة العراقية بـ"27" دولاراً. ولكن خضير الخزاعي وهو إمام حسينية في كندا ترك سبعمئة مدرسة هياكل لا تصلح للاستعمال حين كان وزيراً للتربية. أما علي الأديب فقد قاد وزارة التعليم العالي باسمه الحركي وهو الاسم الذي عُرف به يوم كان جندياً على الجبهة الإيرانية في حرب الثمانينات.
الزيف الذي يصنع الواقع
ربما سخر البعض من "ميليشيا عصائب أهل الحق" لصاحبها قيس الخزعلي الذي سبق له أن انشق عن التيار الصدري حين أعلنت رغبتها في أن تكون وزارة الثقافة من حصتها. لم يقدّر الساخرون معنى أن تستولي ميليشيا عُرف زعيمها بقيادته لعمليات قذرة في الحرب الأهلية ما بين عامي 2006 و2008 على مؤسسات الثقافة في بلد يعتقد مثقفوه أنه لا يزال رائداً في حداثته، رغم أن الكثير من المياه جرت تحت الجسور كما يُقال. ذلك لأن زمن عراق الحداثة هو بالتأكيد ليس زمن عراق الميليشيات. غير أن عراقيي الأمر الواقع لا يفرقون بين ما حدث ثقافياً في الأمس وما يحدث اليوم سياسياً، بحيث ينشغل الكثيرون منهم بحملة معادية ضد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد كما لو أنه أحد المتورطين بقتل الإمام الحسين رغم أنه كتب أعظم القصائد التي مجّدت الإمام الشهيد. أما حين انتقل قيس الخزعلي من الثقافة إلى التعليم فقد كان مشروعه حاضراً. نعيم عبد ياسر العبودي (1978) هو ممثل الخزعلي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وإذا ما عرفنا أن شهادتي الماجستير والدكتوراه اللتين يحملهما العبودي صادرتان من الجامعة الإسلامية في لبنان يمكننا أن نكون على يقين من أن كل الشهادات المزورة ستتم المصادقة عليها بناءً على الهوية العقائدية لحامليها. فالرجل الذي يقود وزارة التعليم العالي يضع الولاء لإيران قبل التعليم وهو ينظر إلى مستقبل الجامعات من جهة تحويلها إلى معسكرات ولائية، وهو ما عبر عنه بفريق "أبناء المهندس".
تنظيم طلابي من أجل الثأر
"جامعة أم حسينية؟" الجامعة ليست حسينية والحسينية ليست جامعة. كان الاتحاد الوطني وهو الواجهة الطلابية لحزب "البعث" عبر 35 عاماً من الحكم المنفرد منضبطاً في إطاره التنظيمي العقائدي ولم يُسمح له بالتدخل في مناهج التعليم. أما حين تم إغلاق عدد من الكليات على البعثيين عام 1974 فقد تدهور التعليم فيها كما حدث في كلية الفنون الجميلة. اليوم تُستعاد تلك التجربة لكن بطريقة بدائية تغلب الجانب العقائدي على الجانب العلمي، وهو ما ينذر باندثار الجامعات وتغطيتها بنقاب أسود. "أبناء المهندس" هو التنظيم الذي تبنى الوزير العبودي الإشراف عليه وإطلاق يده في العمل بين صفوف الطلاب. ذلك ما يمهد لتفريغ الجامعات من محتواها العلمي لتكون حاضنات لرعاية المتشددين الذين سيكون لهم دور في قيادة المرحلة المقبلة التي ستكون الدولة الدينية عنوانها. وإذا ما عرفنا أن معظم عمداء الكليات الإنسانية والعلمية على حد سواء هم من أتباع الأحزاب الدينية، فإن مشروع العبودي في "أبناء المهندس" سينجح.
وهنا ينبغي التذكير بأن المهندس المقصود بتلك العبارة هو "أبو مهدي المهندس" الذي خُلد باسمه الحركي بعدما قُتل مع قاسم سليماني عام 2020. وبغضّ النظر عن موقف الخزعلي من المهندس في حياته فإن الفكرة الرمزية التي انطوت عليها حياة المهندس ومقتله بالنسبة إلى أتباعه تكفي لإضفاء هالة الخلود عليه. في الموقع الرسمي لفريق "أبناء المهندس" نقرأ "في فريق أبناء المهندس نهدف إلى تحقيق الثأر لدماء القادة، وذلك من خلال تمثيل مبادئ الشهيد وقيمه، شهيد الأمة الباسل ابي مهدي المهندس رضوان الله عليه".
مفردة "الثأر" تكفي للكشف عن كل المعاني المستترة.
انهيار التعليم ضروري لبقاء النظام
تدهور مستوى التعليم العالي في العراق تدريجياً منذ أن فرض الحصار الدولي على العراق، بحيث فقدت الجامعات العراقية اتصالها بسواها من الجامعات العالمية التي تتميز بتطور البحث العلمي فيها. غير أن جامعة بغداد وهي الأكثر عراقة ورصانة بين الجامعات العراقية لم تختف من قائمة الجامعات الموثوق بها إلا بعد الاحتلال الأميركي. فبعدما تمت تصفية العقول العراقية، إما عن طريق الإقصاء القسري الذي فتح الباب أمام هروب أكبر عدد من الأساتذة الجامعيين إلى البلدان العربية، أو القتل الذي راح ضحيته الأطباء وعلماء الآثار والمهندسون والرياضيون والضباط الكبار فتحت الميليشيات الباب أمام مناصريها لملء الفراغ. ومن تُتح له فرصة الاطلاع على عناوين الأطروحات المقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في بغداد فلا بد من أن يُصدم بضحالتها وسطحيتها وبؤس ما تنطوي عليه من معان. من ذلك أذكر "أداء القراء في علم التجويد وأصول القراءات" و"التنوع الشكلي والتقني في زخارف صندوق ومشبك الحضرة الكاظمية". وكما يبدو فإن النظام الطائفي لا يمكن أن يطمئن إلى بقائه إلا من خلال انهيار التعليم.