عندما وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، اللمسات الأخيرة لزيارة واشنطن "المنتظرة" و"المرصودة" و"المحورية"، كان يُدرك أنّ هناك جناحاً في البيت الأبيض "الديموقراطي"، يُناصبه العداء، إذ جرى تسريب خبر الى كبريات الصحف الأميركية، سرعان ما انتشر في كل وسائل الإعلام الإسرائيلية، مفاده أنّ الرئيس جو بايدن، قرّر فعلاً التنحّي عن السباق الهادف الى تجديد ولايته الرئاسية، ولكنّه لن يفعل ذلك قبل مغادرة نتنياهو واشنطن، لئلا يعطي الأخير "جائزة"!
وتعاطى المراقبون مع هذا الخبر بارتباك، فهو "سخيف" إذا ما قورنت التحدّيات الأميركية الداخلية بمعطيات العلاقة بين بايدن ونتنياهو، وهو "خطر" لأنّه يعبّر عن وجود جزئية مؤثرة في الإدارة الأميركية تناصب رئيس الحكومة الإسرائيلية العداء، ولا تجد في بقاء بايدن أو تنحّيه، سوى الانعكاسات على وضعية رئيس الحكومة الإسرائيلية. "إرباك" عاد وحسمه بايدن، بإعلان تنحّيه عن السباق الرئاسي وتقديم دعمه لنائبته كامالا هاريس، عشية زيارة نتنياهو، ممّا أظهر أنّ همومه ليست مركّزة على إسرائيل ورئاسة حكومتها، بل على "نوعية تقاعده" و"مستقبل حزبه".
ولكن لهذه "التسريبة" دلالاتها، فخصوم نتنياهو في الإدارة الأميركية، ومن موقع العارف بحقيقة ما يحصل في الكواليس، يتعاطون مع تحوّل بايدن إلى "بطة عرجاء" في مقابل صعود نجم دونالد ترامب، كحدث يصبّ في مصلحة نتنياهو وما يحمله من مخططات لما يسمّيه "الجبهات السبع" التي تحارب إسرائيل.
هل هذا دقيق؟
في الواقع، لا شيء تغيّر أميركيّاً، بالنسبة لنتنياهو، فالجناح الذي يعارضه في الحزب الديموقراطي لن يتأثر بإعلان جو بايدن "تقاعده"، لأنّه سيكون تحت قيادة بديل لا يقلّ معارضة لاستمرار الحرب في غزة، كما هي عليه حال كامالا هاريس. ومنذ سقوط الرئيس الأميركي في مناظرته التلفزيونية، وبعد محاولة اغتيال ترامب في بنسلفانيا، أصبحت قوة بايدن المعنوية ضعيفة، لأنّه سجّل نفسه على قائمة "الخاسرين"، ما شجّع نتنياهو على محاولة إصلاح العلاقة مع صديقه القديم دونالد ترامب، وهي علاقة تدهورت، عندما سارع نتنياهو، في حمأة رفض ترامب لنتائج الانتخابات الرئاسية السابقة، الى رفع السماعة وتهنئة بايدن على انتصاره.
وعليه، فإنّ الخطة التي وضعها نتنياهو للاستفادة من زيارته لواشنطن، تقوم على ضرورة تجاوز "الرهان" على من سوف ينتصر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنّ ما يعنيه في الأشهر الفاصلة عنها، هو توفير ما يكفي من دعم لمخططاته، وهذا لا يمكن أن يتوفّر إلّا من خلال ثلاثة عوامل: توحيد اللوبي اليهودي، بشقيه الجمهوري والديموقراطي، حول "الأمن الاستراتيجي لدولة إسرائيل"، الحصول على تأييد الغالبية في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، وتحييد المعادين لإسرائيل، في الرأي العام الأميركي.
ولهذا السبب، لم يذهب نتنياهو الى واشنطن قبل أن يملأ ملفه بالأدلة التي تهدف الى إظهار أنّ التشدّد الذي يأخذه كثيرون عليه، في إدارة الحرب، هو "تشدّد وجودي"، إذ إنّ العدو الذي يحاربه، ليس فلسطينّياً، أو لبنانيّاً أو سوريّاً أو عراقيّاً أو يمنيّاً، بل هو إيراني بامتياز، كما أنّ الحرب التي يقودها على "سبع جبهات"، في إشارة الى غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، ليست "حرب مكاسب" بل "حرب بقاء"، وبالتالي لا بدّ من تمكين إسرائيل من الانتصار حتى تتمكن من إحباط المخطط الهادف الى اقتلاعها من الخارطة العالمية.
وقبل توجّهه الى واشنطن، نجح نتنياهو في تسليط الضوء على الأخطار الناجمة من "أعداء إسرائيل"، فقدّم مطالعة مدعومة بوثائق تمّ العثور عليها في مراكز "حماس" في غزة عن خطة تدمير إسرائيل التي وضعتها إيران، ولم يحبطها سوى تقريب يحيى السنوار لتوقيت الهجوم على "غلاف غزة"، كما استفاد من مرور، أو "تمرير" مسيّرة إيرانية مطورة أطلقها "حوثيّو اليمن"، نحو بناء سكني في تل أبيب، ليضيف ملفاً خطراً على ملف "حزب الله" في لبنان وسوريا.
ولأنّ نتنياهو لا يريد أن يظهر كالرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي، فهو لن يقدّم نفسه في واشنطن، كطالب "عدّة الانتصار ومالها ورجالها"، بل كباحث عن إزالة العراقيل التي تحول دون تمكينه من الانتصار، ولديه في هذا الصدد، في الهجوم الجوي على ميناء الحديدة الحوثي في اليمن الدليل على "اليد الطولى" لإسرائيل، وفي استهداف مخزني سلاح "حزب الله" في عدلون اللبنانية الساحلية، الدليل على "العين الثاقبة" لجيشه.
وفي حال نجح نتنياهو في مهمّته هذه، فإنّ هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية تصبح ثانوية، لأنّه، في هذه الحالة، أيّاً يكن سيّد البيت الأبيض سيكون، بشكل كامل، داعماً كبيراً لإسرائيل، وعليه، تستمر الحرب وتتوسع!