أظهرت أرقام رسمية صادرة في تونس الأسبوع الماضي تراجعاً في عدد حوادث السير وضحاياها مقارنة بالسنتين الماضيتين.
على وجه التحديد، انخفض عدد الحوادث خلال الفترة منذ بداية السنة الحالية بنسبة 22 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2023، وبنسبة 14 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2022.
لكن تراجع الأرقام لا يمكن أن يخفي جسامة الخسائر البشرية والمادية التي تتسبب فيها الحوادث. خلال سنة 2023 فقط أودت حوادث السير بحياة أكثر من ألف شخص وجرحت أكثر من ثمانية آلاف آخرين. وتتواصل المآسي رغم جهود أجهزة الأمن والحملات التحسيسية لمنظمات المجتمع المدني.
يعتبر انخفاض عدد الحوادث تطوراً مطمئناً بالطبع. والأمل يحدو الجميع في أن يتواصل ذلك، لا أن تعود الأرقام إلى الارتفاع مجدداً بعد سنة أو أخرى.
يتطلب الحد من الحوادث الانكباب على أسبابها قبل كل شيء، إذ فيها ما يدعو إلى الحيرة والانشغال ويستدعي الانتباه العاجل.
تظهر أرقام السنة الحالية (إلى حدود منتصف شهر تموز/يوليو) وكذلك أرقام السنتين الماضيتين أن أول سبب في حوادث السيارات في تونس، بحسب معطيات المرصد الوطني لسلامة المرور التابع لوزارة الداخلية، هو "السهو وعدم الانتباه". ويشكّل ذلك أكثر من 40 في المئة من أسباب الحوادث.
والمقصود أساساً بـ"السهو وعدم الانتباه" هو استعمال سائق السيارة أو الدراجة النارية الهاتف الجوال أثناء القيادة. وفي هذا التعبير الكثير من التهوين والتلطيف في وصف ممارسة هي أقرب إلى الاستخفاف بحياة البشر واللامبالاة بما يتسبب فيه انعدام الحس المدني من مآس.
ما يدعو إلى الحيرة هو أن نسبة الحوادث المصنفة في هذه الخانة في ازدياد. فهي لم تكن تبلغ 20 في المئة من إجمالي حوادث السير في تونس قبل خمس سنوات، أي أنها تضاعفت مرتين منذ سنة 2018، مسايرة نسق ارتفاع نسبة امتلاك الهاتف الجوال واستعماله في المجتمع.
تفوق نسبة حوادث "السهو وعدم الانتباه" في تونس بكثير نسبة الحوادث التي يتسبب فيها مثلاً الإفراط في السرعة (حوالي 15 في المئة) أو القيادة تحت تأثير الكحول (أقل من 2 في المئة من الحوادث).
رغم ذلك ليس هناك وعي كاف لدى سائقي السيارات في تونس بخطورة الظاهرة. فرؤية السائقين والسائقات، وحتى الراجلين الذين يقطعون الطريق، يتحدثون في الهاتف الجوال أو ينظرون إلى شاشته الصغيرة أمر مألوف جداً حتى في الطرق السريعة والمزدحمة، رغم كون ذلك ممنوعاً منعاً باتاً.
الكثير من دول العالم تتعامل مع الظاهرة بمثل تعاملها مع القيادة في حالة سكر أو تحت تأثير المخدرات. وهي تحجر استعمال الجوال حتى لما تكون السيارات في حالة توقف تام عن السير.
وتقول دراسة أجرتها إدارة حكومية أميركية مختصة إن توجيه رسالة إلكترونية أو قراءتها عبر الهاتف الجوال أثناء القيادة يماثل قيادة شخص سيارته وهو مغمض العينين على مسافة تعادل طول ملعب لكرة القدم.
وتقول البحوث الأميركية إن عيني الإنسان تحتاجان لما لا يقل عن 27 ثانية للتركيز مجدداً على الطريق بعد مطالعة محتوى رسالة ما أو إنهاء مكالمة على الهاتف الجوال. يسمي الخبراء ظاهرة تشتت التركيز "مفعول الخُمار" (بضم الخاء) في استعارة تحيل إلى آثار استهلاك الخمر على عقل الإنسان.
والصادم بالنسبة إلى المتأمل في الأرقام التي تتضمنها التقارير التونسية هو الحصيلة المرتفعة لضحايا الحوادث الناجمة عما يسمى بـ"السهو وعدم الانتباه". فخلال سنة 2023 نتج من هذه الحوادث 305 قتلى و2735 جريحاً.
والمذهل أن حصيلة الخسائر البشرية المسجلة في تونس ليست بعيدة تماماً عما تسجله الولايات المتحدة من ضحايا في حوادث السير الناتجة من استعمال الهاتف الجوال، وذلك رغم الفرق الشاسع في ما يخص شبكة الطرق وأسطول السيارات المستعملة في البلدين، إذ تشير الأرقام الأميركية إلى مقتل حوالي 400 شخص سنتي 2020 و2021 بسبب استعمال الهاتف الجوال. أرقام لا تفوق كثيراً حصيلة الضحايا في تونس.
والمشكل أن دور الهاتف الجوال في حوادث السير قد يكون أكبر من الأرقام التي تسجلها تقارير الشرطة. ولا أحد يمكنه أن يعرف بدقة عدد الحوادث التي يتسبب فيها الجوال، فالقليل من السواق، باستثناء من يتم ضبطهم متلبسين بالمخالفة، يقرون بأنهم كانوا يستعملون هواتفهم عند حصول الحادث.
من الأكيد أن استعمال الهاتف الجوال ظاهرة مجتمعية مستشرية في كل مكان في تونس. وهي تدخل المدارس والمستشفيات وكل الإدارات الحكومية. وفي البيوت تحبس كل فرد من أفراد الأسرة في ركنه وفي عالمه الافتراضي.
ولولا الأرواح البشرية التي تزهق جراءه لكان من المبرر اعتبار استعمال الهاتف عند القيادة ظاهرة هامشية لا تستحق الاهتمام، أو ربما سلوكاً عادياً لا يستوجب الزجر والعقاب مثلما يميل الكثير من سائقي السيارات في تونس على ما يبدو للاعتقاد.
والمؤلم أن الدماء التي تسيل في الطرق نتيجة استعمال الجوال، أو بسبب الإفراط في السرعة وعدم احترام قوانين الطرق وقيادة السيارة في حالة سكر، من الممكن حقنها بقليل من الوعي والالتزام بالقانون.
ووضع حد للسلوكيات القاتلة على الطريق قابل للتحقيق بمبادرات ذاتية هي أقرب إلى التونسي من انتظار تحسن البنية التحتية للطرق أو توفر الإمكانات المادية التي تسمح له بإحالة سيارته المتهالكة على التقاعد.