لم يكن أمام الرئيس جو بايدن غير التنحّي عن خوض الانتخابات الرئاسيّة أمام دونالد ترامب. انتصر عليه ترامب في المناظرة التي أُجريت في أواخر حزيران (يونيو) الماضي. قضى عليه ترامب بالضربة القاضية، بل بالصورة القاضية، لدى خروجه متحدّياً من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها المرشح الجمهوري في الثالث عشر من شهر تموز (يوليو) الجاري، رافعاً قبضته فيما الدمّ يغطي وجهه.
ليس في استطاعة الإنسان الانتصار على التقدّم في العمر. انتصرت السنوات على جو بايدن الذي فَقَد جزءاً من ذاكرته، وبات رئيساً يتلعثم فاقد التركيز بعد تجاوزه الـ81 من العمر. هناك أشخاص يصمدون في مواجهة السنوات، ويزدادون تألقاً مع بلوغهم الثمانين وتجاوزهم هذا العمر. الأكيد أن جو بايدن ليس من هذه الفئة من الناس التي يمثلها ونستون تشرشل خير تمثيل. بقي تشرشل، حتى موته وتجاوزه التسعين من العمر، يتمتع بقواه العقلية كاملة، بل ازداد حكمة وتألّقاً وقدرة على ممارسة السخرية في السنوات الأخيرة من عمره، حتى عندما بدأ يشعر بنوع من الاكتئاب بسبب الشعور باقتراب الآخرة.
لم ينسحب جو بايدن من معركة الرئاسة في الوقت المناسب. تأخّر في ذلك كثيراً. كان مفترضاً به أصلاً ألّا يترشح، وأن يدع الحزب الديموقراطي يبحث عن بديل معقول يملك رصيداً سياسياً يواجه به دونالد ترامب. لكن، ما العمل عندما يتعلّق الأمر بشخص تعوّد على السلطة، وبات لا يستطيع مفارقتها في ظل ضغوط عائلية تدفعه في اتجاه السعي إلى حلم مستحيل، هو حلم البقاء في البيت الأبيض؟
مخيف ألّا يعود هناك منافس جدّي لشخص من طينة دونالد ترامب، لا يعرف في السياسة غير ممارسة الشعبوية. ما مستقبل العلاقات الأميركية – الأوروبية في حال انتُخب ترامب رئيساً في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل؟ ستكون هناك من دون شك انعكاسات في غاية الخطورة على أوروبا كلّها، التي يهدّد فلاديمير بوتين كلّ دولة من دولها من خلال الحرب التي شنّها على أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. سيكون العالم، في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أمام رئيس أميركي لا يدرك أبعاد تمكّن الرئيس الروسي من وضع يده على جزء من أوكرانيا وفرض أمر واقع على العالم. لن يعود في أميركا، في حال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، من يفكّر في معنى الرضوخ لفلاديمير بوتين الذي صار في حضن الصين، والذي يعتمد على التسهيلات التي تقدّمها له لتجاوز العقوبات الدولية. أكثر من ذلك، يعتمد الرئيس الروسي، في الحرب التي يشنّها على الشعب الأوكراني، على سلاح مصدره "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران وكوريا الشماليّة. ليس معروفاً كيف يمكن الاعتماد على رئيس أميركي لا يدرك معنى أن تصبح كل دولة أوروبية تحت تهديد روسيا، أو على الأصح الصين وداعمي فلاديمير بوتين في طهران وبيونغ يانغ؟
يُعبّر انسحاب جو بايدن من المعركة الرئاسيّة عن أزمة في داخل أميركا نفسها، حيث يبحث الحزب الديموقراطي عمّن يواجه به دونالد ترامب. يظلّ أخطر ما في الأمر أن لا كلام عن بديل من بايدن، أقله في الوقت الحاضر، غير الكلام عن الإتيان بكامالا هاريس التي تشغل منصب نائب الرئيس الأميركي. برعت هاريس في سنوات عهد بايدن في إظهار جهلها في السياسة، لا أكثر. لم تحسن التصرّف لدى تعاطيها مع أي موضوع كان عليها مواجهته. كيف يمكن كامالا هاريس ذات الثقافة السياسية المحدودة التعاطي مع عالم يعيش في ظلّ تعقيدات من نوع لا سابق له في التاريخ الحديث؟ كيف تستطيع هاريس مواجهة وحش سياسي وبشري اسمه بنيامين نتنياهو، يعتقد أن الفرصة مناسبة لمتابعة حربه على المواطنين في غزّة وتصفية القضيّة الفلسطينية، غير مدرك أن هذا أمر مستحيل في ظلّ وجود شعب فلسطيني موجود على خريطة الشرق الأوسط أكثر من أي وقت؟
تشير التقارير الموثوق بها من واشنطن، أن جو بايدن فاجأ كبار مساعديه بقرار التنحّي. ربّما سيترتب عليه أيضاً ترك الرئاسة لنائب الرئيس ما دام يشعر بأنّه لم يعد مؤهلاً لممارسة دوره كرئيس لأكبر قوة في العالم. كان هؤلاء المساعدون يعتقدون أن لا مفرّ من هذا القرار، لكن بعد استشارتهم والبحث الجدّي في كيفية الحدّ من الإضرار، وما إذا كانت هناك وسيلة للوقوف في وجه دونالد ترامب، لم يحصل شيء من ذلك. ما حصل كان استسلاماً لجو بايدن أمام القدر، قدر استحالة تغلّب الإنسان على التقدّم في السن.
ترك جو بايدن أميركا في مهبّ الريح... في عهدة دونالد ترامب الذي لا يدرك ما سيترتب على أن تكون روسيا تهدّد أوروبا، ولا أن يكون بنيامين نتنياهو طليق اليدين في تعاطيه مع الفلسطينيين وقضيتهم من دون مشروع سياسي قابل للحياة، في أساسه إنهاء الاحتلال...