في بداية عام 2009، كان رئيس الوزراء العراقي (الأسبق) نوري المالكي، يلقي خطاباً في تجمع عام. قَطع خطابه أحد الشعراء الشعبيين ليلقي قصيدة قصيرة يمدح فيها المالكي ويختمها بهوسة شعبية عن "ها انريدك ما تنطيها ("تعطيها"، أي السلطة) واحنا جنود وياك"، ليصفّق الجمهور تأييداً لقول الشاعر فيما أظهرت الكاميرا علامات القبول على وجه المالكي. رَدّ هذا الأخير مبتسماً بعدما خف التصفيق بالقول "هو يگدر واحد ياخذها حتى ننطيها بعد؟!". كانت لحظة نادرة، عفوية وصادقة، معبرةً عن فهم المالكي للسلطة وعلاقته بها ودوره فيها. لم يكن بالضرورة واضحاً قصدُ المالكي من جملته هذه لجهة تحديد "هم" و"نحن" الذي انطوى عليه رده: هل يمثل هو، بوصفه رأس السلطة التنفيذية، النظامَ السياسي لما بعد 2003، بإزاء البعثيين الذين كان يعتقد الرجل بقوة، وربما لا يزال، أنهم يحاولون العودة للسلطة؟ أم كان يعني شخصه كرئيس للوزراء مستعد للتمسك بالسلطة بأي ثمن ومنع تسليمها لأي منافس له؟
بغضّ النظر عن صحة أيّ التفسيرين، أصبحت هذه الجملة "ما ننطيها" لازمة تعريفية للرجل، إذ انطوى سلوكه السياسي كما ظهر في السنوات اللاحقة عن تمسك شديد بالسلطة ورفض مغادرتها بأي ثمن يمكن دفعه. ظهر هذا جلياً من خلال التفافه على خسارته الانتخابية في الانتخابات البرلمانية في 2010، أمام السياسي المناوئ له، إياد علاوي، عبر حصوله على تفسير من المحكمة الاتحادية يسمح له بالترشح لفترة رئاسية ثانية. ظهرت الضراوة بالتمسك بالسلطة على نحو أشد بعد انتخابات 2014 التي فاز هو فيها، بعد حصول إجماع سياسي عراقي نادر على ضرورة أن يتنحى عن الترشح لقيادة حكومة ثالثة، بسبب الرفض السياسي الواسع له، محلياً وإقليمياً وعالمياً، في ظل بروز نتائج السياسات الكارثية التي اتبعها، بينها سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش" الإرهابي وانهيار معظم الجيش العراقي وعودة الحرب الطائفية في البلد، التي سبق أن أخمدت في عام 2008.
واجهَ حزب الدعوة الاسلامية حينها، وهو الحزب الذي ينتمي اليه المالكي، خياراً عسيراً، إذ كان عليه إما أن يستبدل المالكي بزعيم آخر من الحزب نفسه كي يضمن احتفاظه برئاسة الوزراء، أو يخسر هذا المنصب لصالح حزب آخر. لم يستطع الحزب أن يحسم الأمر، عبر أدواته المؤسساتية، ليُضطر تالياً للجوء إلى سبل غير حزبية لإنهاء صراع حزبي: رسالة الى المرجع الديني السيد علي السيستاني، قاد جوابها بخصوص اقتضاء المصلحة العامة بأن يأتي رئيس وزراء جديد إلى نهاية آمال المالكي بحكومة ثالثة.
من الصعب للمهتمين بتتبع السلوك السياسي في ثقافات مختلفة، ككاتب هذه السطور، المرور سريعاً على سهولة تخلي الرئيس الأميركي جو بايدن عن طموحه الشخصي بأن يصبح رئيساً لأميركا مرة ثانية، مقابل شدة تمسك زعماء عرب بمناصبهم الرئاسية حد الاستعداد لرؤية الكثير من الدمار والخسارات التي يعاني منها الجميع كي يبقى الزعيم في سدة السلطة. عند إثارة مقارنات كهذه، غالباً ما يأتي الجواب الأوتوماتيكي، الذي أصبح أشبه بلازمة كلامية تُكرر وكأنها حكمة قديمة فيها بديهة اليقين الراسخ والدائم، بأن هناك فرقاً ثقافياً كبيراً ينبغي أخذه في الاعتبار: بُلدان لديها تجارب ديموقراطية عريقة ومؤسسات قوية تطورت عبر القرون، مقابل بلدان أخرى حديثة العهد بالديموقراطية والمؤسسات، تتلمس دربها بصعوبة ولها الحق أن تتطور عبر تجاربها الخاصة الخ الخ. يُعرف هذا التفسير باسم "الخصوصية الثقافية"، أي أن اختلاف الثقافات يبرر اختلاف النتائج.
رغم أن استخدام هذه الحجة معقول ومنطقي في سياقات محددة ترتبط غالباً بعمل المؤسسات والقيم العامة التي تنتج من رصانة أدائها المستمر، تُوظف "الخصوصية الثقافية" في العالم العربي على نحو مبالغ به كثيراً، عادةً لتبرير الفشل والالتفاف عليه وعلى نتائجه، وكثيراً ما يكون هذا التوظيف من جانب المسؤولين عن هذا الفشل. تفترض "الخصوصية الثقافية"، على النحو الذي تُوظف فيه عربياً، فهماً حرفياً جامداً للتقدم يقوم على اعادة اكتشاف العجلة من جديد: نحتاج مئات الأعوام وأن نمر بما مرت به الدول الناجحة كي نصنع نجاحنا الخاص بنا!! هذا الاستخدام مُضلل وغرضه الأساسي تطبيع المجتمع على الفشل وترويض طموحاته في عالم مفتوح تتراجع فيه الحدود الفاصلة بين الثقافات والمجتمعات المختلفة، ويزداد فيه التعلم والتفاعل والتأثير والتأثر. كيف نجحت بلدان من خارج المنظومة الغربية (كوريا الجنوبية، الهند، سنغافورة، ماليزيا، تايوان، غانا، كوستاريكا الخ الخ) في صناعة تجارب تحول ناجحة وطويلة الأمد، حتى برغم تحدرها من تواريخ إشكالية واستبدادية كتاريخنا العربي؟
الذي يصنع الفارق ويدفع المؤسسات في الطريق الصحيح هو زعماء سياسيون يتصرفون على نحو استثنائي في اللحظات المهمة والفاصلة، عندما يقدمون المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. لم تكن الولايات المتحدة الأميركية دولة مؤسسات ولا ناجحة اقتصادياً او قوية عسكرياً، عندما قرر أول رئيس لها، جورج واشنطن، ألا يترشح لرئاسة ثالثة في عام 1796، رغم أن فوزه بها كان شبه مؤكد. لم يفعل هذا لأنه، على نحو رئيسي، كان مؤمناً بالقيم الجمهورية الناشئة حينها: أن يبقى الزعيم لفترة محددة ويغادر، كي لا يعيد الاعتبار لإغراء الحكم الملكي، أي الحاكم الذي يحكم بالوراثة حتى الموت! احتذى به الرئيس الأميركي الثالث، وعملياً أحد خصومه الكبار، توماس جيفرسون، الذي رفض أيضاً الترشح لفترة رئاسية ثالثة بعد ذلك بـ 13 عاماً، أي في 1809. كان الاثنان قَلقَين من عودة الاستبداد الذي أطيح به في "حرب الاستقلال" ضد السيطرة البريطانية الملكية المستبدة. وضعا بذلك تقليداً أخلاقياً اتبعه الرؤساء الأميركيون على مدى قرنين من الزمان.
في 14 من آب (أغسطس) 2014، عندما اضطر المالكي لأن يُعلن سحب ترشحه لمنصب رئاسة الوزراء قارئاً خطاب التنحي، وإلى جانبه خليفته حيدر العبادي، تظلم كثيراً وتحدث عما اعتبره انجازاته وأظهر نفسه بموضع المضحي الذي يعاني ويتألم لكنه يتعالى على الجحود والخصومة، ليشير لخليفته المحتمل على نحو عابر في خطابه ذي الـ 15 دقيقة "لتسهيل سير العملية السياسية، أعلن سحب ترشيحي لصالح الأخ الدكتور حيدر العبادي لتشكيل الحكومة الجديدة". لم يذكره بايجابية ولم يتمنَّ له النجاح في مهمته الصعبة المقبلة. في رسالة تنحي بايدن، لم يكن ثمة شكوى أو تظلم، بل شكرٌ للذين عملوا معه. فضلاً عن الحديث عن انجازات إدارته، كانت الرسالة تؤكد على المستقبل. ختمها بالقول: "كان أولَ قرار لي كمرشح للحزب في عام 2020، اختيارُ كامالا هارس كنائبة للرئيس. كان هذا أفضل قرار اتخذته. اليوم أريد أن أمنح دعمي الكامل لكامالا لتصبح مرشحة حزبنا هذا العام. حان الوقت كي نتحد سويةً ونهزم ترمب. لنفعلها!".
ليس مصدر الفارق بين المالكي في 2014 وبايدن في 2024، قوة المؤسسات، وإنما نوعية الزعامات، بالذات في تقديم بعضها للمصلحة العامة على مصلحتها الشخصية وتمترس بعضها الآخر وراء مصالحها الشخصية، أياً يكن الثمن. يكمن فشل العراق في هذه الصفة الأخيرة.