النهار

الحمض النووي… لأحزاب وزعماء غربيين!
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
ثمة مشتركات بين حزبي المحافظين والعمال البريطانيين لا تستطيع الادّعاءات أن تطمسها، منها المبالغة في الخوف من تهمة معاداة السامية التي وظّفها كير ستارمر بطريقة رابحة.
الحمض النووي… لأحزاب وزعماء غربيين!
النائب البريطاني المحافظ والوزير السابق آلان دانكان (أ ف ب)
A+   A-
ثمة مشتركات بين حزبي المحافظين والعمال البريطانيين لا تستطيع الادّعاءات أن تطمسها، منها المبالغة في الخوف من تهمة معاداة السامية التي وظّفها كير ستارمر بطريقة رابحة. فقد وجد فيها أداة مفيدة ساعدته في "التخلّص" من رفاق يساريين، كسلفه جيريمي كوربين، وإثبات حسن النية تجاه "اللوبي الصهيوني"، الذي يستخدمها سلاحاً للفتك بخصوم إسرائيل. وهكذا، راح حزب العمال في ظل زعيمه الحالي "يصنّع" تهمة التورط بتبنّي تلك النزعة العنصرية للمغضوب عليهم، ثم يمضي لمعاقبتهم على نحو استعراضي.
 
ويبدو أن حزب المحافظين تعلّم منه ذلك، كما شهد أخيراً "شاهد من أهله"، هو الوزير السابق آلان دانكان، المؤيّد العريق للحقوق الفلسطينية، والذي خاض تجربة مريرة مع تهمة معاداة السامية. وبعد تبرئته قبل أيام، هاجم الحزب علناً، وتساءل عن سبب التحقيق معه في مخالفة لم يزعم أحد أنه ارتكبها، ولماذا طُلب منه أن يدافع عن نفسه من دون أن يعرف ما هي أسس الدعوى المزعومة ضدّه ومن هم أصحابها؟ الجواب بسيط، كما اكتشف لاحقاً. فالحزب لا يمكنه إبلاغه أنه "صنّع" التهمة بنفسه، لخشيته من أن يوصم بها من قِبل "اللوبي الصهيوني"، أو لأن هذا الأخير تسلّل إلى عقله وصنّاع القرار فيه!
 
القصة بدأت حين انتقد دانكان في مقابلة إذاعية مجموعة "أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين"، المعروفة بممارسة الضغوط لمصلحة تل أبيب. واعتبر أنها "تقوم بخدمة نتنياهو"، متجاوزة الأصول، وذلك "لممارسة نفوذ لا مبرّر له" على الدوائر العليا في السلطة. وخصّ بالذكر البارون ستيوارت بولاك، الرئيس الفخري للمجموعة، موضحاً أنه "ينبغي عزله من مجلس اللوردات، لأنه يعمل لخدمة مصالح دولة أخرى، لا مصلحة البرلمان الذي ينتمي إليه".
 
يُشار إلى أن بولاك "صديق" حميم لإسرائيل، وورد ذكره مراراً في "يوميات" دانكان المنشورة قبل ثلاث سنوات، كمحارب عنيد ضدّ أنصار فلسطين بالتعاون مع اللورد إيريك بيكلز. والأخير كان وزيراً في أيام ديفيد كاميرون، حين اكتسبت "المجموعة" نفوذاً غير مسبوق، وباتت تضمّ نحو 80 في المئة من نواب المحافظين. وهي تأسست في ستينات القرن الماضي كنسخة عن "مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال" التي سبقتها بسنوات، وكانت ذراعاً ضاربة لـ "اللوبي"، ولعبت دوراً مهمّاً في دعم بلير وإسقاط كوربين.
 
في هذه الأثناء، نشر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي قبل أسابيع من استهداف دانكان، كتاباً عنونه "الضغط من أجل الصهيونية على ضفتي الأطلسي"، تناول فيه بالتحليل نشاط أشخاص على شاكلة بولاك وبيكلز.
 
وبابي يعيش في بريطانيا منذ عام 2007. فصدور كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" أنهى عمله في جامعة حيفا، ومنعه من التعليم في إسرائيل، حيث واجه حملة شرسة اشتملت على الدعوة غير المباشرة لقتله. وغالباً ما يتعرّض للمضايقات في أميركا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، وهو لا يستغرب هذا التجنّي.
 
غير أنه يبقى على عناده في التصدّي لهذه "الأيديولوجيا" التي "دمّرت مجتمعات يهودية، ولاسيما في دول عربية". وهي لا تحمي اليهود بقدر ما تؤذيهم، بإذكاء "معاداة السامية" وأكاذيبها. تفاؤله لافت، كمعرفته الموسوعية بإسرائيل/فلسطين وعلاقتها بالعالم العربي. ويستمد القدرة على الاستمرار من إيمانه بأن الزمن يتغيّر في غير صالح الصهيونية.
 
يجادل أن إسرائيل ربما كانت الدولة الوحيدة في العالم المشغولة بالدفاع عن شرعيتها. هذه الحقيقة ساهمت في دفعه إلى الكتابة عن جماعات الضغط الصهيونية، وحفّزته أيضاً حقيقة ثانية، وهي الإنكار الواسع للحق الفلسطيني في الأوساط الرسمية الغربية، مع أنه واضح لا لبس فيه. وفي توصيفه مدى "صهيونية" زعماء مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ويلسون، أو الرئيس الأميركي جو بايدن، يقول إن التحيّز لمصلحة إسرائيل "في حمضهم النووي"، إلّا أنه يعوّل على جيل الشباب في الولايات المتحدة خصوصاً.
 
في هذا السياق، يتوقف عند المعارضة التي كانت من نصيب "الصهيونية السياسية" منذ أواسط القرن الثامن عشر. ويشير إلى موقف إدوين مونتاغيو، الوزير اليهودي البريطاني (1879 - 1924) الذي أوضح أن اليهودية ليست قومية تصلح أساساً لدولة. وعارض وعد بلفور، معتبراً أنه "معادٍ للسامية"، ومن شأنه أن يُشرّد اليهود من أوطانهم ويرسلهم لاغتصاب دولة أجنبية لها أصحابها.
 
لكن، انكفأت معارضة الصهيونية في أوساط اليهود وغيرهم بعد المحرقة النازية. وطور "اللوبي الصهيوني" على ضفتي الأطلسي أدواته. فمضى "يجنّد" نخب الموظفين ذوي العلاقة بإسرائيل، ويستدرج كل سياسي ناشئ في بداياته، كما فعل مثلاً مع توني بلير وغوردون براون فور وصولهما إلى مجلس العموم في عام 1983. وواصل إغراق الصحف برسائل الاحتجاج على كل شاردة وواردة تتصل بإسرائيل. هكذا، استطاع "اللوبي" القضاء على وليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق في مجلس الشيوخ الأميركي. وتمكن من حجب الترقية المحتملة لدانكان في عام 2016، ومن قبله كريستوفر مايهيو في عام 1964 في الخارجية البريطانية. وأصبح ماهراً في تنكيد حياة من يعارض إسرائيل بشكل أو آخر، من خلال الشتائم والتهديدات والإساءات التي يطارده بها "متطوعون" عبر وسائل التواصل الاجتماعي حالياً. ولم تنجُ من احتجاجاته شخصيات إعلامية بريطانية بارزة مثل جوناثان ديمبلبي، صديق الملك تشارلز الشخصي وكاتب سيرته، فضلاً عن آلان روسبريدجر رئيس تحرير "الغارديان" السابق، وسوزان غولدنبرغ مراسلتها اليهودية السابقة من القدس المحتلة وغيرهم.
 
إلّا أن سطوة اللوبي الصهيوني لن تدوم، في رأي بابي، إلى الأبد. وهو يرى سلفاً الشقوق في بنيان دعايته التي غدت عاجزة عن الإقناع بالحجة الأخلاقية كما كانت الحال في الماضي، وبات لزاماً عليها أن تلجأ إلى المال أو الدعم المعنوي أو الترهيب، حتى تصل إلى ما تريده. وستسرّع غزة في أفول شمسها.
 
 

اقرأ في النهار Premium