بماذا يعود بنيامين نتنياهو من واشنطن حيث استطاع استغباء أعضاء الكونغرس وأظهرهم كجوقة تهريج يصفقون فيما هو يمرّر ما يشاء من أكاذيب وفظاعات؟ قد يبدو السؤال متجَاوَزاً وسط حال الحرب التي هيمنت على لبنان، بعد قصف مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، وقد تمتدّ أيضاً إلى سوريا.
على رغم أن نتنياهو شكر جو بايدن، إلا أنه لم يفوّت الفرصة لانتقاده على بطء شحنات الأسلحة والردّ على مآخذ علنية أبداها الرئيس الأميركي بالنسبة إلى استهداف المدنيين في غزّة وعرقلة دخول المساعدات والهجوم على رفح والتهرّب من التفاهم على "اليوم التالي" بعد الحرب. وعلى رغم أن الظرف غير مناسب بروتوكولياً، لكن الجمهور الجمهوري المصفّق مناسب جداً، فنتنياهو تقصّد إقحام دونالد ترامب في خطابه لإظهار حنينه إلى أيامه وانحيازه إلى ترشيحه. والواقع أن المشهد الهستيري للكونغرس في ذلك اليوم كان أبلغ تبرير لتغيّب كامالا هاريس عن جلسة الخطاب، بالإضافة إلى ما ذُكر لاحقاً عن مطالبتها بوقف الحرب وخروج نتنياهو غاضباً من لقائه معها.
بماذا يعود رئيس الوزراء الإسرائيلي، إذاً؟ الجواب في الشكوك التي تزايدت بشأن إمكان التوصل إلى اتفاق على الهدنة وتبادل الرهائن والأسرى، بسبب شروطه الجديدة، فحتى وفده المفاوض ينتقده.
بمعزل عن ردود الفعل السلبية داخل إسرائيل وفي الصحافة الغربية، لا شك في أن ابتعاد نتنياهو عن الضغوط المحلية من المستوى الأمني وذوي الرهائن منحه جرعة معنوية تعزّز ثقته بأن نهجه في إدارة المفاوضات غير المباشرة بمواصلة الضغط على "حماس" هو الصحيح. والأكيد أنه لم يتعرّض لأي ضغط استثنائي من جانب بايدن الذي اعتاد على قول ما لديه وعلى أن نتنياهو لا يستجيب ويفعل ما يشاء. أما المؤكّد فهو أن لقاءه ترامب زاده اقتناعاً بخطط المرحلة المقبلة، من دون التوقف عند رأي واشنطن. ولعل قصف ملعب كرة قدم ومقتل شبان وأطفال في مجدل شمس في الجولان السوري شكلا التحدّي والذريعة لدفعه إلى تحديد خياراته أو تسريعها.
على رغم أن المصادر العسكرية الإسرائيلية اتهمت "حزب إيران/ حزب الله" تحديداً بواقعة مجدل شمس، وأن "الحزب" نفى مسؤوليته عنها، إلا أن المستوى السياسي تلقاها كضربة تعمّدتها إيران لاستدراج إسرائيل إلى حرب تريدها فعلاً وتواصل الاستعداد لها، لكن ليس في هذا التوقيت. لذلك قرّر نتنياهو التعجيل بالعودة واتصل بالزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف وأبلغه أن "حزب الله سيدفع ثمناً غالياً لم يدفعه حتى الآن". وفيما أكد البيت الأبيض دعمه "الراسخ" لإسرائيل "ضد الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران بما في ذلك حزب الله"، أوردت مواقع أميركية وقنوات عبرية، أن نتنياهو حصل على موافقة أميركية على "عملية" ضد "الحزب". وإذ أوحت اتصالات المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مع عدد من المسؤولين اللبنانيين بأن "العملية" الإسرائيلية ستبقى في إطار ما هو معهود، إلا أن "الحزب" أُبلغه أن ردّه سيكون "كبيراً"، وهو ما نُقل أيضاً إلى قوات "اليونيفيل".
في الأثناء كان قصف ملعب مجدل شمس قد فاجأ المراقبين والمحللين، إذ لم يكن هذا الموقع ضمن التوقعات، لذا انصبّت التساؤلات عن "الجهة المستفيدة"، وعن أهداف "حزب الله" إذا كان هو الذي قصف بلدة سورية محتلة بصاروخ أطلقه من بلدة شبعا اللبنانية (كما يقول الإسرائيليون)، وما الذي رمت إليه إيران إذا كانت هي التي هندست هذه الضربة، وهل يكون الصاروخ الذي قتل 12 طفلاً وشاباً انطلق من القبة الحديد الإسرائيلية وسقط "خطأً" فوق الملعب (كما ذكرت مواقع وقنوات قريبة من المحور الإيراني)، ولذلك أفادت مصادر بأن الجيش الإسرائيلي سيلجأ إلى تقنية "الفار" لتحدد مصدر الصاروخ؟... هذا التضارب في المعلومات ساهم في إضفاء شيء من الغموض على المواقف إزاء الحادث، لا سيما موقف الطائفة الدرزية في لبنان التي تفادت اتهام "الحزب".
كان لافتاً استنكار شيخ عقل الطائفة في لبنان "الهجوم الإرهابي" مندداً بقتل الأطفال والأبرياء "أكانوا من أبناء الموحدين الدروز أم من إخوانهم الفلسطينيين"، أما الزعيم السياسي وليد جنبلاط فأخذ في اعتباره نفي "الحزب" أيَّ علاقة له بما حصل في مجدل شمس ليحذّر "مما يعمل عليه العدو الإسرائيلي لإشعال الفتن وتفتيت المنطقة واستهداف مكوّناتها"، وقال "إننا أسقطنا هذا المشروع في السابق، وإذ يطلّ برأسه مجدداً فإننا له بالمرصاد إلى جانب المقاومة وكل المقاومين الذين يواجهون الإجرام والاحتلال الإسرائيليين".
وعلى رغم ترويج مصادر عديدة أن الردّ الإسرائيلي "سيكون متفقاً عليه"، كما حصل أكثر من مرة، إلا أن الظروف مختلفة تماماً، بدليل أن "الحزب" أخلى مقاره في الضاحية الجنوبية، كما يفعل في حال الحرب. وكان قادة عسكريون إسرائيليون قد كرروا في الأيام الأخيرة استعدادهم لحرب على لبنان، وفور قصف مجدل شمس تصاعدت أصوات كثيرة داخل إسرائيل تطالب بالحسم ضد هذا "الحزب". وكان الإعلان قبل أيام عن تأجيل العودة المدرسية في الشمال الإسرائيلي قد أثار غضب النازحين من مستوطناتهم منذ عشرة شهور، لكنه أوحى بأن الحرب المرتقبة باتت وشيكة، بل مؤكّدة، ولا تنتظر سوى القرار السياسي.
ثمة مصادر تعتقد أن هذا القرار أصبح جاهزاً بعد محادثات نتنياهو في واشنطن، وأن تأجيل التحرك العسكري كان لاستكمال الاستعدادات، فهل أُريد من قصف مجدل شمس التعجيل بالحرب لإرباك إسرائيل؟ في أي حال، استعادت وزارة الخارجية الإيرانية، في بيان عاجل، التهديد بـ"ردٍّ حاسم وموحّد" من "محور المقاومة" إذا تعرضت "السيادة الوطنية اللبنانية لعدوان صهيوني". لكن طهران واصلت استبعاد الحرب، بلاءات ثلاث أوردها مجتبى أماني سفيرها في بيروت: "لا نتوقعها لأن فرصها ضئيلة جداً بسبب معادلات القوة المفروضة"، و"لا نريدها لأن (إيران) سعت دائماً إلى التخفيف من حدّة التوترات في المنطقة"، و"لا نخافها بكل ما للكلمة من معنى، ولأعدائنا أن يتخيلوا ماذا بإمكاننا أن نفعل بما لدينا من قوة واقتدار ودفاع عن المقاومة"... لكن من لا يتوقع الحرب لا يفعل كل شيء لاستدراجها، أما الردع بـ"معادلات القوة" و"محور المقاومة" فيستبطن قبولاً مسبقاً بدمار كبير لا يريده اللبنانيون.