شهدت لندن مساء السبت واحدة من أكبر المسيرات العنصرية منذ 2018، ما يوحي بأن اليمين المتطرف المتنامي في أوروبا صار حاضراً في بريطانيا. ونظم الحدث اللافت المتطرف تومي روبنسون (41 عاماً)، الذي سينتهي به الأمر في السجن قريباً لفترة قد لا تقل عن سنتين بسبب عرضه على المشاركين فيلماً وثائقياً عن قضية مراهق سوري لاجئ دانته المحكمة بالتعدي عليه. والرجل، واسمه الحقيقي ستيفن لينون، ليس غريباً على السجون. ارتكب مخالفات شتى واعتداءات ودينَ بتلفيق أكاذيب، فحُبس لبضعة أشهر في السنوات الماضية.
وضم الحشد العنصري عشرات الآلاف، بحسب تقدير منظمة "الأمل لا الكراهية" المعادية للعنصرية، ساروا في قلب العاصمة البريطانية وهم يلوحون بأعلام إنكلترا واسكتلندا وويلز ويرفعون أصواتهم بخليط غريب من الشعارات المعادية للإسلام والمثليين ولقاحات كوفيد وأنصار حماية البيئة، بعضها مستنسخ من شعارات نازية وفاشية وترامبية ترددها جماعات أقصى اليمين في الغرب.
والتظاهرة تعيد إلى البال مسيرات الفاشيين أصحاب القمصان السود في شرق لندن. لكنّ ثمة فارقاً أساسياً بينهما، فالأولى هاجمت اليهود بواسطة لافتات وهتافات معادية للسامية، أما روبنسون وجماعته فأساؤوا إلى اليهود من خلال رفعهم شعارات صهيونية! بيد أن النسختين القديمة والحديثة تتفقان في استهداف المهاجرين من أصول أفريقية وآسيوية، من منطلق الوطنية المزعومة!
وتصدّر التظاهرة المضادة النائب المستقل جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال السابق وشخصيات يسارية ونقابية. وندد المشاركون فيها بالعنصرية والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، ورفعوا شعارات مؤيدة لغزة كما حملوا أعلام فلسطين.
وروبنسون يعتبر "الوجه القبيح" لليمين المتطرف في الغرب. فكثيراً ما يلجأ إلى العنف واستهداف خصومه جسدياً واستخدام الشتائم واللغة البذيئة ضدهم وضد مقدساتهم وقيمهم العليا، على نحو يترفع عنه سياسيون متشددون. وتجمعه وشائج التجني والكذب والعنصرية بالمتطرفين الذين وصل بعضهم إلى سدة الحكم في هذا البلد الأوروبي أو ذاك. ويعتقد أنه على علاقة شخصية مع بعض هؤلاء ويقال إنه يتلقى دعماً مادياً ومعنوياً منهم غيرَ مباشر. غير أنه أشبه بالبوق الذي يستخدمونه كالأداة التي تفعل لهم ما لا يريدون فعله بأيديهم لكيلا تتسخ!
وربما كانت الأنانية، هي العلامة الفارقة التي يشترك بها مع متطرفين صغار مثل النائب نايجل فاراج زعيم حزب "ريفورم يوكي" (إصلاح المملكة المتحدة) وكبار كدونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق.
تجمّع المشاركون في المسيرة في ساحة الطرف الأغر على مرمى حجر من مقر رئاسة الوزراء وبرلمان ويستمنستر، قلعة الديموقراطية البريطانية التي هاجموها. وهناك ألقى روبنسون كلمة الافتتاح التي تباهى فيها بعدد المشاركين في المسيرة التي عمل هو وثلة من عتاة اليمينيين المتطرفين منذ أشهر على إعدادها. وقال: "أشعر اليوم وأنا أنظر إلى هذا الحشد أنني أربح"، ناسباً النصر المزعوم إلى نفسه!
وبعد ذلك عرض عليهم فيلماً وثائقياً بعنوان "خضع للرقابة" يتناول فيه قضية محاكمته بتهمة التشهير باللاجئ الحمصي جمال حجازي (15 عاماً) التي بدأت عام 2018، ودانته المحكمة بسببها في 2021 كما فرضت عليه غرامة قدرها 100 ألف جنيه إسترليني، فضلاً عن تكاليف الدعوى (500 ألف جنيه إسترليني)، وأمرته بالكفّ عن تكرار الأكاذيب نفسها تحت طائلة المسؤولية. إلا أنه تحدى السلطات القانونية أمام المتظاهرين مردداً في الفيلم الأكاذيب التي لفقها في الماضي عن المراهق السوري. واللافت أن عرض الشريط الخاص به استغرق نحو ساعتين، أي قرابة ثلث الوقت المخصص للمسيرة!
وثمة ما يقلق في العلاقة الخفية بينه وبين حزب "الإصلاح". وتعود جذور هذه الصلة على الأقل إلى 2018. وكان قد دعا إلى التصويت لفاراج في الانتخابات الأخيرة، معتبراً أنه "الخيار الوحيد"! وأبلغ المتظاهرين أنه دعاه إلى إلقاء كلمة فيهم لكنه اعتذر، علماً أن غالبيتهم الساحقة كانت من أنصاره. وهذا "الود" لا يبدو متبادلاً، إذ يتجنب زعيم "الإصلاح" الشعبوي الإفصاح عن أي علاقة أو استحسان مع الناشط الذي يعتبر نسخة أقل قبولاً ومهارة منه.
التنديد بالمهاجرين والترويج لكراهية الإسلام والمزاعم المتعلقة باستدراج مسلمين من أصول آسيوية المراهقات من صاحبات البشرة البيضاء للاعتداء عليهن جنسياً، كلها صفات يشاطره إياها رموز اليمين المتشددون في حزب المحافظين من أمثال وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان. والواقع أن روبنسون تخصص منذ سنوات بنشر قصص "الاستدراج" كصحافي، وهي الصفة التي ينتحلها للقيام بنشاطاته المتطرفة في بريطانيا وخارجها. وهو تبنى شعار ترامب الشهير، بتصرف، فصار على يديه "اجعل إنكلترا قوية من جديد". وأخذ عنه الاستعمال المفرط لصفة "الوطنية". ومعروف أن ستيف بانون، مستشار ترامب السابق، امتدح "شجاعة" روبنسون علناً. والحق أن لا جديد في الكثير من صفاته. فهي مشتركات بين فصائل اليمين المتطرف في الغرب، ممن يزعمون أن جل ما يريدونه هو "استعادة بلدانهم" التي يحتلها الغرباء على ما يبدو، ويرددون مثله نظرية "الاستبدال" التي يزعمون أنها قيد التطبيق بهدف تجريد البيض من أوطانهم!
إلا أن أكثر ما يقلق في مسيرة السبت الماضي هو نجاح المنظمين بإغواء ما يراوح بين "20 ألف شخص إلى 30 ألفاً، فيما وصل عدد متابعي البث الحي لروبنسون عبر الإنترنت أحياناً إلى 500 ألف شخص" بحسب "الأمل لا الكراهية". إلا أن هذا الإقبال يجب ألا يفاجئ أحداً في الشهر الذي نال فيه حزب "الإصلاح" الشعبوي 14 في المئة من الأصوات في الانتخابات العامة.
اليمين المتطرف آخذ بترسيخ أقدامه من جديد في المملكة المتحدة. ولن يستطيع فاراج، أو تيارات أقصى اليمين في الغرب، تجاهل روبنسون بعد اليوم، فقد قدم أوراق انتسابه بجدارة في مسيرة السبت الماضي.