النهار

فرنسا "المتلألئة" بين "العشاء السرّي" و"الوليمة الإلهيّة"!
فارس خشان
المصدر: النهار العربي
تدرك فرنسا أنّها، ومنذ أقرّت العلمانية مبدأ لها، عانت كثيراً من نظرة المؤسسات الدينية لها
فرنسا "المتلألئة" بين "العشاء السرّي" و"الوليمة الإلهيّة"!
أضواء الأولمبياد في باريس. (أ ف ب)
A+   A-

كان يمكن للحفل الافتتاحي للألعاب الأولمبية أن يُسجّل في قائمة "الإبداع الفنّي"، ويرتاح في كتاب التاريخ، لولا الغضب "المفتعل" هنا و"العفوي" هناك، على بعض اللوحات الفنية، ولا سيّما منها تلك التي عمّ انطباع لا يحاكي الواقع، عن أنها سخرت من "العشاء السري"، وهو العشاء الأخير الذي أقامه السيد المسيح لتلامذته، قبل اعتقاله ومحاكمته وصلبه فقيامته.

وكان اليمين المتشدد في فرنسا مدعوماً من أجهزة الدعاية الروسية الغاضبة على استبعاد موسكو عن هذه المظاهرة الرياضية العالمية، بسبب هجومها "غير المبرر" على أوكرانيا، "ينتظر على المفرق" ما يمكن أن يبثه حفل الافتتاح، إذ إنّ الهجوم عليه بدأ يتكوّن، قبل أسابيع من انطلاق الألعاب الأولمبية، في ضوء الانقسام الانتخابي، من جهة ووضعه بعهدة مخرج ينتمي الى اليسار الفرنسي، من جهة أخرى.

وبدأ الهجوم اليميني على حفل الافتتاح قبل سطوع نجم "الوليمة الإلهية"، وذلك مع عرض لوحة الملكة ماري أنطوانيت التي تحمل رأسها المقطوع بواسطة المقصلة (اختراع فرنسي)، وهي تغني نشيد الثوار الفرحين بأنّ الأرستقراطية الفرنسية بدأت تدفع الثمن، بعدما كانت فوق القانون. اليمين الفرنسي المتشدد الذي نادى، أكثر من مرة بوجوب إعادة عقوبة الإعدام الى قانون العقوبات، بدا في تعليقاته على هذه اللوحة، على الرغم من أبعادها التاريخية والوطنية والدينية، ناقماً على التسويق لعقوبة الإعدام، علماً أنّ هذه اللوحة تجسد مساراً فنيّاً ودينيّاً وثقافيّاً راسخاً في التاريخين الفرنسي والإغريقي، إذ إنّ أهم قديسي باريس "سان دوني"، وهو كان أول مطارنتها وشهيد تحويلها الى الكاثوليكية، يتم تجسيده بتمثال يحمل فيه رأسه المقطوع، كما أنّ هذه اللوحة تبقى موصولة بالتاريخ الإغريقي الذي تبرز فيه "نبوءة الرأس المقطوع".

ولكن سرعان ما تمّ تجاوز هذه المشهدية، مع بدء "الوليمة الإلهية" في حفل الافتتاح، إذ لم تمر دقائق قليلة جداً على عرض هذه اللوحة، حتى بدأ تصويرها كما لو أنّها تسخر من "العشاء السري"، وفق ما عبّر عنه ليوناردو دافينشي في لوحته الشهيرة. اللافت للانتباه أنّ مجموعات محسوبة على المتشددين الإسلاميين دخلت على خط هذه الإهانة المزعومة للدين المسيحي، وسعت الى شيطنة فرنسا، من دون أن تتوقف عن الفصل الطبيعي والبديهي بين الدولة والبلدية واللجنة المنظمة والفنانين المعنيين. وكان لافتاً للانتباه أنّ "الإسلام السياسي" الذي يفترض به دينيّاً أن يتخذ مواقف سلبية من الصور التي تجسد الأنبياء، تبنى لوحة دافينشي ودافع عن "قدسيتها" في وجه "المخانيث" و"المنحرفين"، من دون أن يعير أيّ انتباه الى أنّ هذا الفنان الإيطالي الذي مات في قصر ملك فرنسا، أبرز الوجوه التاريخية لما يسمّى "مجتمع الميم".

وعلى رغم تفسير التلفزيون الفرنسي الذي أخذ الحق الحصري لنقل حفل الافتتاح بأنّ هذه الوليمة هي "إغريقية"، أصر الجميع على اعتبارها "مسيحية"، حتى بدت قناعة راسخة، في تأكيد جديد على أنّ الانطباع أقوى من الحقيقة.

في واقع الحال، قد يكون هناك ميل طبيعي الى نسب هذه المشهدية الفنية في افتتاح مونديال باريس، إلى لوحة دافينشي نظراً لشهرتها العالمية ووجود أكثر من مليار صورة منسوخة عنها، ولكن في الحقيقة، فهي تجسيد مستوحى من "وليمة الآلهة" الخاصة بإله الكرمة والخمر والاحتفال والفرح والخصوبة، الإغريقي، ديونيسوس الذي سمّاه الرومان "باكوس" ويعرفه الشرقيون باسم "باخوس".

وتحاكي المشهدية الباريسية "وليمة الآلهة" وفق ما عبّر عنها هوميروس في "الإلياذة" وما رواه عن هذا الإله المؤرخ الإغريقي هيرودوت، وما جسده رسامو عصر النهضة في شمال أوروبا بلوحات مخمليّة وزيتيّة. ديونيسوس هذا هو الذي خرج ليغني عن عشقه للعراء من الطبق الضخم المملوء فاكهة.

بطبيعة الحال، لم يكن ممكناً أن يمر حفل الافتتاح هذا، بالنسبة للمحافظين، على أنّه مبدع، خلّاب، مميّز، وتاريخي، كما أجمعت التعليقات الفرنسية والعالمية على وصفه، لأنّ كل ما فيه يعاكس ما به يؤمنون، فهو يعيد الزمن الى حقبة ما قبل الإله الواحد، أي الى الحقبة الإغريقية، على رغم أنّ فكرة الألعاب الأولمبية نفسها مستوحاة من زمن "تعدد الآلهة"، كما أنّه يحاول التطبيع مع قبول المثليين وزواجهم وتبنيهم للأطفال، علماً أنّ كل هذا أصبح في منظومة القوانين لكثير من الدول وفي طليعتها فرنسا.

واقعيّاً، قد تثير هذه الحملة التي شارك بها جميع المتشددين في العالم استياء مرحلياً في المؤسسة الفرنسية الحاكمة، ولكنّها لن تُزعج الواقفين وراء حفل الافتتاح، لأنّ الفنانين يعرفون أنّ الجدل الذي تثيره أعمالهم هو الذي يدخلهم الى التاريخ ويخلّد ما قاموا به ويتسبب بفتح العقول في اتجاه معارف جديدة وأفكار حديثة وتطلعات مختلفة، ففولتير المتربع حاليّاً في "بونتيون" باريس، مثلاً، حين عرض أفكاره جرّ على نفسه النفي ولم يجد مريدوه حين مات كاهناً واحداً يصلي على جثمانه وقبراً واحداً يحتضن رفاته.

وتدرك فرنسا أنّها، ومنذ أقرّت العلمانية مبدأ لها، عانت كثيراً من نظرة المؤسسات الدينية لها، فالصخب الذي أحدثه الإسلاميون في وقت سابق ضد فرنسا، موجودة أسبابه، ولو بصوت خافت، في سائر المؤسسات الدينية ولا سيّما الكاثوليكية منها، بعدما حرمتها العلمانية من كثير من الامتيازات وأخذت فرنسا في اتجاهات لا تتوافق مع المعتقدات الدينية.

في آذار(مارس) الماضي سار مئات الآلاف من المسيحيين في شوارع العاصمة الفرنسية تحت عنوان "مسيرة من أجل يسوع". مسيرة أجازتها السلطات وحمتها، من دون أن يخرج صوت واحد يجرّح بها، على رغم أنّه يؤخذ على هذه المسيرة الكثير، على المستوى التنظيمي، والسلوكي، والفكري، والفني.

ولكن هذه هي حال الدنيا، فالحرية التي ينشدها المتشددون لأنفسهم يسعون الى تحريمها على من يقفون على الضفة الأخرى من النهر!


اقرأ في النهار Premium