لا يفهم الكثير من التونسيين كيف تقلصت شواطئ بلادهم مقارنة بما كانت عليه منذ أعوام.
في أماكن عدة، لم تعد الرمال الذهبية مثلما كانت من قبل، توفر مساحات واسعة للاسترخاء ولا متعة لعيون المصطافين التونسيين والسياح الأجانب.
لم تحدث الظاهرة بين عشية وضحاها. فقد جاء في دراسة للبنك الدولي صدرت في عام 2021 أن شواطئ تونس تآكلت بين عامي 1984 و2016 بما لا يقل عن 70 سنتميتراً في السنة. وهناك دراسات أخرى تقدر المساحة المتآكلة من الشواطئ التونسية بأكثر من ذلك بكثير.
في 13 عاماً، فقدت شواطئ منطقة الحمامات السياحية، على سبيل المثال، نصف مساحتها.
ما الذي حدث؟
اجتمعت على شواطئ تونس عوامل طبيعية وبشرية لمدة عقود. أول العوامل التي انعكست على حال الشواطئ كان ارتفاع مستوى البحر في حوض المتوسط بسبب الاحتباس الحراري. وهذه الظاهرة مؤهلة للاستمرار والتفاقم، إذ تنبه بعض الدراسات إلى أن ارتفاع سطح البحر قد يطال ربع السواحل التونسية من الآن وحتى عام 2050.
زادت التصرفات البشرية في الإضرار بالشواطئ، بينها الممارسة المفرطة لأنشطة تعدين الرمال والبناء العشوائي في المناطق المتاخمة للبحر، وتشييد السدود النهرية التي تؤثر في حركة الرياح والأتربة.
وساهم زحف العمران البشري على وجه الخصوص في تدهور البيئة الطبيعية للشواطئ، خصوصاً أن نحو 85 في المئة من السكان في تونس يقطنون في المناطق الساحلية للبلاد.
ما يشغل بال التونسيين، إضافة إلى تدهور المظهر الجمالي للشواطئ، هو أن الظاهرة لها كلفتها الاقتصادية. تمثل مداخيل السياحة 14 في المئة من الناتج القومي الخام، ويرتكز نشاط الفنادق التونسية بنسبة تقارب 90 في المئة على البحر والشمس والرمال الذهبية.
بعد عقود من الحملات الترويجية، أصبح منظر الشواطئ الممتدة حتى الأفق جزءاً من الهوية الإيكولوجية والسياحية لتونس، وصورتها الخارجية. وليس غريباً مثلاً أن يهتم العديد من الصحف الفرنسية في هذه الأيام بالموضوع. فتونس زارها في عام 2023 ما لا يقل عن مليون سائح فرنسي، من جملة 8 ملايين سائح أجنبي.
وعلى الرغم من أن الخبراء ما انفكوا يدعون منذ عقود إلى "تنويع المنتوج السياحي"، فإن المصاعب المالية وضغوط المنافسة الخارجية عرقلت إلى الآن أي جهود لإحداث تغييرات جوهرية في ذلك الاتجاه.
اليوم، تحاول السلطات معالجة المشكلة بتركيز الصخور الكاسرة للأمواج، وإن كان ذلك لا يُعيد للشواطئ رونقها، أو بنقل كميات من الرمال إلى الشواطئ المنحسرة، وهذا حلّ وقتي ومكلف جداً، إذ تعود الرمال بعد وقت للاضمحلال.
كذلك، يضر تدهور أوضاع السواحل التونسية بأنشطة الصيد البحري، إذ يشتكي الصيادون من النتوءات الصخرية التي تصدمها مراكبهم عند الإبحار، بسبب انحسار الرمل على السواحل. كما تهدد الظاهرة النشاط الزراعي، بما أن ارتفاع مستوى البحر يؤدي أيضاً إلى تسرب المياه المالحة إلى اليابسة.
لا ذنب لأحد في تونس بكل تأكيد في الأضرار البيئية المترتبة عن تغير المناخ. لكن التصرفات البشرية الخاطئة موضوع آخر. يشترك في المسؤولية الأفراد وأصحاب المشاريع، وكذلك مسؤولو الإدارات المحلية والمركزية.
لعقود متتالية لم تحظ سلامة البيئة البحرية بالأهمية الكافية في الخطط التنموية. وغفلت البلديات عن حماية سواحل البلاد والمناطق الخضراء من خطر البناء العشوائي.
وبفعل الضغوط والإغراءات وانعدام التخطيط العمراني السليم، تحول العديد من المواقع الطبيعية والسياحية إلى غابات من الخرسانة، يضيق فيها العيش، وتختفي فيها زرقة البحر والسماء.
لا شيء سوى الجشع والأنانية وانعدام الوعي بقيمة المحيط وهشاشته يمكن أن يفسر في الواقع إصرار الكثير من الأطراف على مواصلة بناء الفنادق والمطاعم والمساكن الفخمة طيلة عقود كاملة، من دون الأخذ في الاعتبار سلامة الشواطئ.
ولا تزال البيئة البحرية، إضافة لذلك، تتعرض للتلوث بسبب إقدام مؤسسات صناعية وأخرى حكومية على مواصلة سكب المياه الملوثة في البحر.
والمثير للقلق هو أن هذه الظاهرة تتواصل من دون مبرر أو تفسير مقنع، على الرغم من الاحتجاجات. وخلال الأسبوع الماضي، دعا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية) الحكومة إلى "إعلان حال الطوارئ البيئية في خليج المنستير" (على الساحل الشرقي للبلاد).
وذكّر المنتدى بتواصل "الانتهاكات البيئية" في حق خليج المنستير منذ نحو 20 عاماً، "جراء السكب المتواصل للمياه الملوثة المنزلية والصناعية من قبل محطات التطهير والمصانع".
المنستير ليست وحدها التي تتعرض لمثل هذه المشكلة. فإن العديد من المناطق الأخرى في البلاد، خصوصاً خليج قابس (الذي يؤوي واحات بحرية فريدة من نوعها في العالم)، تشتكي من التلوث الصناعي لمياه البحر.
حالة الشواطئ والبحر المتردية يجب ألا تفاجئ أحداً، اعتباراً لتضافر عوامل الجشع وسوء الحوكمة وقصر النظر على مدى سنين وعقود طويلة.
وفيما تتحدث التقارير والدراسات منذ عقود عن الظواهر التي تهدد سواحل البلاد وثرواتها البحرية، لا يبدي الكثير من التونسيين اهتماماً كافياً بالموضوع، وكأنهم يعتقدون أن الأخطار التي تواجهها البيئة على المدى البعيد لها الله والأجيال المقبلة، أو كأنما يتخيلون أن لا شيء يمكن أن يبدد الثروة الطبيعية التي تمتعوا بها لحد الآن.
لكنهم يكتشفون تدريجياً أن المسألة البيئية لا تستطيع تحمل المزيد من التهميش والتسويف، وقد أضحت اليوم من أولى الأولويات، وسوف تتحكم في مصير البلاد وجودة الحياة فيها، اليوم وليس غداً.