ضربة على الرأس توجع فكيف بضربتين خلال ساعات؟
كان "محور المقاومة" مرتبكا تحت تأثير الضربة الاسرائيلية التي استهدفت أحد قادة "حزب الله" العسكريين فؤاد شكر الذي وصف بأنه الرجل الثاني في الحزب بفضل اهميته العسكرية والأمنية، في قلب معقل الحزب في الضاحية الجنوبية، عندما تلقى الضربة الثانية الثقيلة باغتيال زعيم حركة "حماس" اسماعيل هنية وفي قلب عاصمة المحور طهران المحتفلة بتنصيب مسعود بزشكيان رئيسا جديدا للجمهورية الاسلامية.
كان السؤال الأكثر تداولاً في العالم قبل الضربتين هل تندلع حرب واسعة بين اسرائيل و"حزب الله"؟ ليتحول الى سؤال مركب أكبر: هل ستندلع حرب اقليمية او حتى أوسع بعدما تخطت اسرائيل الخطوط الحمر، بحسب التوصيف الايراني؟
من المؤكد ان "حزب الله" سيرد على عملية حارة حريك، وان ايران سترد على اغتيال هنية، واسرائيل تعرف أن الرد آت وتستعد له، لكن كيف سيكون الرد وأين؟ هذا ما سيحدد الشكل المقبل للصراع ومدى قابليته للتوسع ...او للانكماش.
قد يكون حجم الضربتين وتزامن تنفيذهما فاجأ كثيرين، خصوصا أن رئيس الوزراء الاسرائيلي لم يكن في وضع مريح سياسيا داخل اسرائيل نفسها وفي الخارج رغم الاحتفاء الجمهوري به في الكونغرس الاميركي، فهو واجه في اليومين الأخيرين شبه انقلاب على "الدولة العميقة" في اسرائيل، اذ فيما كان وأركان حربه يهددون لبنان ويتوعدون، انفجرت في وجهه فضيحة التعذيب والاغتصاب حتى الموت التي يتعرض لها المعتقلون الغزيون في القواعد العسكرية الإسرائيلية، وعندما حاول استغلالها لتحسين صورته المدماة عبر توقيف المسؤولين عنها ومحاكمتهم، فاجأه أنصار حليفيه العنصريين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير باقتحام قاعدتين عسكريتين لإطلاق العسكريين الموقوفين في جريمة تعذيب السجناء وقتلهم. لم يكن الأمر عادياً في إسرائيل، لقد تم سحب وحدات من الجيش من الجبهات لفك الحصار اليميني في مشهد وصفه كثيرون من الطبقتين السياسية والعسكرية بأنه مؤشر إلى انحلال الدولة.
في الأثناء كانت تصل إلى نتنياهو الصور والأخبار من أولمبياد باريس حيث موجة التعاطف مع الفلسطينيين تظهر واضحة في المنافسات وفي المدرجات وحيث يواجه الرياضيون الإسرائيليون بالنبذ والصفير، ويتبلغ أن بريطانيا ستمنع قريباً تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ويقرأ أن اليساري المؤيد لفلسطين نيكولاس مادورو فاز مجدداً برئاسة فنزويلا.
لكن نتنياهو المأزوم محلياً ودولياً فاجأ الجميع بعمليتين قد تشكلان منعطفا في الصراع، ذلك يتوقف الآن على رد محور المقاومة، لاسيما ايران، فوقائع الأيام والأسابيع والشهور الماضية تفتح الباب على توسيع اطار التأثيرات الدولية في الحرب الدائرة في غزة.
من المؤشرات ذات الدلالة الكبيرة ان الضربتين جاءتا بعد عودة نتنياهو من واشنطن مباشرة بعد لقاءات سياسية وأمنية بعضها معلن وبعضها غير معلن، وهو الأهم. هل كانت أميركا على علم مسبق بالضربتين؟ الأرجح نعم وان نفى بعض مسؤوليها ذلك. كانت لافتة مسارعة وزير الخارجية الاميركي انطوني بلينكن، وفيما اسرائيل تنفذ عدوانا على لبنان، الى اعلان ان واشنطن ستحمي اسرائيل وتدافع عنها، مع تسريب معلومات عن تحرك بوارج أميركية الى قبالة الساحل اللبناني. هنا أيضاً يجدر التذكير بأن فؤاد شكر مطلوب أميركياً في قضية تفجير مبنى المارينز في بيروت قبل أربعين عاماً وقد رصدت واشنطن مكافأة مليونية لمن يرشد اليه.
كشفت الضربتان مكامن خلل كبيرة في النظام الاستخباري "المقاوم"، لم يعد الاختراق سرا بعد تواتر عمليات الاغتيال في لبنان وسوريا وايران والعراق، لكنهما تشيران أيضا الى ما هو أبعد من ذلك. من المؤكد ان هنية وشكر كانا موضوعين تحت رقابة استخبارية لصيقة منذ فترة طويلة بانتظار الساعة صفر او التوقيت المناسب لتوجيه رسائل دموية الى ايران التي باتت على عتبة انتاج قنبلتها النووية، بأن اسرائيل، ومن ورائها أميركا وتحالف الغرب، قادرة على تخطي خطوط حمر أبعد والوصول الى عمق المنشآت النووية وهي تحظى بدعم اميركي غير مشروط من الادارة الديموقراطية التي تظهر عكس ما تبطن.
الرواية الاسرائيلية التي روجت خلال الأيام الماضية لنظرية الرد الاسرائيلي على صاروخ سقط على مجدل شمس في الجولان المحتل تبدو في السياق حجة هزيلة من نوع حجة الذئب الذي قرر أكل الحمل بحجة تعكير مياه النبع عليه فيما كان هو في الاعلى والحمل في الأسفل.
صاروخ "مجهول" يسقط في بلدة مجدل شمس يقتل مجموعة من الأطفال في ملعب رياضي. تقوم قيامة نتنياهو "الإنساني الرقيق" على هول المنظر. نتنياهو لا يتحمل قلبه الضعيف رؤية أطفال يُقتلون بصاروخ، فكيف إذا كانوا من أبناء الطائفة الدرزية! صار نتنياهو العنصري يحب الدروز العرب، ويقسم بأنه سيثأر لهم، فيما قائد جيشه "يزحط" معتبراً أن أهالي مجدل شمس ليسوا إسرائيليين، وهو على حق. إنهم سوريون ويؤكدون ذلك دائماً ومعظمهم رفضوا الجنسية الإسرائيلية، كما رفضوا استقبال نتنياهو ووزرائه للتعزية بأبنائهم.
مفضوحة وسمجة غيرة نتنياهو على أطفال مجدل شمس الذين احتل أرض أهلهم وسلخها عن وطنها الأم وأعلن ضمها بأهلها الذين وضعتهم دولته أمام خيارين: البقاء تحت الاحتلال وقبول الهوية الإسرائيلية أو الرحيل من قراهم. لكن من يصدق أن هذا المتطرف الذي لا يرى إسرائيل إلا دولة يهودية مكرساً ذلك في دستورها، يهمه أمر طفل عربي يقتل في مجدل شمس؟
لم تر إسرائيل داعياً للتحقيق في مصدر الصاروخ، إنه من عند "حزب الله"، وبين نفي الحزب أن يكون قد أطلق الصاروخ ومسح الأمن الإسرائيلي مسرح الانفجار وسط معلومات متداولة على نطاق واسع عن أن الصاروخ هو اعتراضي تابع للقبة الحديدية الإسرائيلية، وجد نتنياهو نفسه يعلن الحرب على لبنان من دون أن يبدأها فعلاً (إذا اعتبرنا أن الضربة تدخل في سياق قواعد الاشتباك وليست حادثة الاغتيال الأولى لقادة عسكريين في الحزب).
الكرة الآن في مرمى "المحور"، ورميها في المرمى الآخر لعبة صعبة، لكن اذا لم يحسن ركل الكرة بقوة وبدقة خسر المباراة.