على خطى الولايات المتحدة الأميركية وإسبانيا وألمانيا وغيرها من دول العالم، اختارت فرنسا أن تضع نقطة النهاية لتَرَدُّد طال طويلاً بخصوص الموقف من قضية الصحراء المغربية. صحيح أن الفيتو الفرنسي كان دائماً لصالح المغرب في مجلس الأمن، وصحيح أيضاً أن القيادات المتعاقبة على قصر الإليزيه منذ عام 2007 كانت قد أعلنت بوضوح دعم مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب مخرجاً لنزاع مفتعل يُعتبر سقط متاع الحرب الباردة، لكن الموقف الفرنسي ظل جامداً، بينما عرفت مواقف دول أخرى تقدّماً شكّل تحولاً تاريخياً، خصوصاً الموقفين الأميركي والإسباني، لذلك كان هناك تذمّر واسع في الرباط من إمعان باريس في تردّدها، وربط موقفها من القضية المركزية للمغرب ببناء التوازن مع الجزائر. وهذا الأمر دفع العلاقات الثنائية بين البلدين إلى الجمود، وذلك لفترة طويلة تُقاس بمعايير طبيعة العلاقات التاريخية الثقافية والإنسانية والاقتصادية بين البلدين، بل إن هذا الجمود كاد أن يتحوّل إلى قطيعة لم يشهدها تاريخ العلاقات الثنائية. إحدى المحطات الأكثر توتراً تمثلت في الاتهامات التي وُجّهت إلى الرباط على خلفية برنامج التجسس "بيغاسوس"، وكذلك تصويت البرلمان الأوروبي في إطار توصية غير ملزمة ضدّ المغرب، وذلك بتحريض واضح من ستيفان سيجورنيه قبل أن يتولّى وزارة الخارجية.
التوتر بين باريس والرباط في الفترة السابقة يجد تفسيره أيضاً في الجوانب الاقتصادية، إذ أدّى تطور ونمو حجم وكفاءة الشركات والمقاولات المغربية إلى تحجيم الحضور الاقتصادي الفرنسي، وذلك وفقاً لقواعد المنافسة واقتصاد السوق. كما أن واقع الحضور المغربي في أفريقيا في مجالات الاتصالات والبنوك والتأمينات وقطاع البناء وصناعة الأسمدة، اعتبره جزء من النخبة الفرنسية أنه يضرّ بمصالحه. وفي الوقت الذي كان يُنتظر فيه مد اليد للمغرب وبحث الفرص الاقتصادية وفق منطق "رابح رابح"، واستثمار الحضور المغربي في أفريقيا لصالح البلدين، تمّ النظر إلى المغرب كخصم وبنظرة استعلائية تستعيد نزعة استعمارية متجاوزة، تزامنت مع خريف الحضور الفرنسي في أكثر المناطق التي كانت تمثل لباريس مجالاً حيوياً واستراتيجياً، خصوصاً في دول الساحل والصحراء، حيث تمّ طرد الفرنسيين بشكل واضح من طرف جيل جديد من العسكريين. لذلك، في الواقع، كانت فرنسا تعرف أزمة عميقة مع أفريقيا جديدة بقيادات بسقف طموحات مرتفع، قد لا تملك القدرة على تحقيقها كلها، لكن الجو العام كان مؤطراً بحماسة وطنية في ما وصفه البعض بالاستقلال الثاني، لذلك كان مطلوباً من فرنسا أن تعيد حساباتها، وألّا تتورط أكثر في إنكار الواقع.
في هذا السياق، يأتي تغيير الموقف الفرنسي من قضية الصحراء المغربية، علماً أن فرنسا تدرك جيداً طبيعة النزاع، وتعرف أن المغرب إنما يطالب فقط بما يملك. لذلك وصف العاهل المغربي في رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون اعتراف فرنسا للمغرب بأسانيده القانونية وحقوقه التاريخية بأنه يساهم في تعزيز الدينامية الدولية التي تدعمها، بالفعل، العديد من البلدان، من أجل وضع حدّ لنزاع موروث من حقبة أخرى. فالملك محمد السادس كان واضحاً قبل سنتين في مناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، من كون ملف الصحراء المغربية هو "النظارة التي ينظر منها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات"، وشكّل الخطاب مناسبة دعا فيها العاهل المغربي بعض الدول، خصوصاً شركاء المملكة التقليديين، إلى "توضيح موقفها من قضية الصحراء المغربية بشكل لا يقبل التأويل". كما ذكّر بموقفين على درجة كبيرة من الأهمية: الأول يهمّ الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، والثاني يهمّ الموقف الإسباني التاريخي الداعم لمغربية الصحراء، وذلك عبر دعمهما الواضح مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع المفتعل.
الجميع فهم ساعتها أن باريس هي الجهة الأولى المعنية بالمضمون القوي والواضح للخطاب الملكي، لذلك كانت باريس مطالبة بالانتقال بموقفها من مغربية الصحراء من دعم مخطط الحكم الذاتي والذي كان موقفاً متقدّماً في عام 2007، إلى موقف وموقع أكثر جرأة يعترف بوضوح بالسيادة المغربية على صحرائه، باعتبار القرب التاريخي لفرنسا من ملف الوحدة الترابية للمملكة، بل ومسؤوليتها المباشرة عمّا فقده المغرب من ترابه الوطني، بخاصة في الصحراء الشرقية.
تأخُّر وضوح الموقف الفرنسي يجد خلفيته أيضاً في اعتقاد جزء من النخب المحيطة بالرئيس ماكرون، عن خطأ، أن رمادية موقف باريس يمكن أن تسعف في بناء التوازن بين الرباط والجزائر، وأن التقدّم في اتجاه هذا الطرف يجب أن يكون بمقدار التقدّم نفسه نحو الطرف الآخر، من دون مراعاة واقع التناقض الجذري بين الطرفين. وأثبتت الجزائر أنها تتصرف كطرف رئيسي كلما تعلّق الأمر بموضوع الصحراء المغربية، فقد استدعت سفيرها من مدريد عندما أعلنت إسبانيا دعمها خطة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع، وقامت اليوم بسحب سفيرها من باريس مرّة أخرى على خلفية القرار السيادي الفرنسي، الذي اعتبر أن مخطط الحكم الذاتي المغربي "يشكّل، من الآن فصاعداً، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه". بناء التوازن بين المغرب والجزائر كان خطأ فرنسياً كبيراً، كاد يصل بالعلاقات مع الرباط إلى حدود القطيعة، في الوقت الذي لم يُسعف باريس في بناء علاقات جيدة مع الجزائر، فكانت الحصيلة هي أن باريس تخسر المغرب من دون أن تكسب الجزائر، لذلك كان ضرورياً لإدارة ماكرون إعادة قراءة الموقف ببعد استراتيجي، بعيداً من الحسابات التكتيكية واختيار الشريك الذي يمكن بناء المستقبل معه بشفافية ووضوح بمنطق استمرار الدولة وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وهو ما يتحقق في حالة المغرب، وكذلك كان.
أظهرت ردّات فعل النخب السياسية والاقتصادية الفرنسية أنها توجد في حالة شبه إجماع بخصوص مساندة سيادة المغرب على صحرائه. فمارين لوبن اعتبرت القرار متأخّراً، بينما كشفت صحيفة "لوموند" الأربعاء الماضي كيف ساهمت كبريات المؤسسات الاقتصادية الفرنسية في اتخاذ قرار الاعتراف، الذي يعيد لفرنسا القدرة على أن تلعب دوراً مهماً على الساحة الدولية، في إطار تفعيل موقفها الجديد الذي أكسبها بلا شك حليفاً ذا صدقية وله وزن كبير في أفريقيا. وهكذا تكون مكاسب الوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ...