كُشف الخميس الماضي استثنائياً أن أليكس روداكوبانا (17 عاماً) هو المتهم بقتل ثلاث طفلات (6 و7 و9 سنوات)، طعناً بسكين، يوم الإثنين في بلدة ساوثبورت القريبة من مدينة ليفربول، ومحاولة قتل عشرة آخرين أصيب بعضهم بجراح خطيرة. اضطرت السلطات إلى نزع الغطاء عن اسم الفاعل، مع أنه لم يبلغ الثامنة عشرة، وذلك لوضع حد لاستغلال الحادث على نحو بغيض من قبل متطرفين. فهؤلاء هاجموا عناصر الشرطة ومسجداً في البلدة وقاموا بأعمال شغب في البلدة ومناطق عدة بينها لندن، واحتجاجات عنيفة ضد المسلمين والمهاجرين!
ووصف كير ستارمر رئيس الوزراء ما قام به المتشددون بـ"الجريمة" مهدداً بإنزال أقصى العقوبات بهم ومتعهداً "اتخاذ كل خطوة تعتبر ضرورية" لحماية المسلمين البريطانيين. وشدد الزعيم الذي تابع التطورات عن كثب وزار موقع الجريمة هو ووزيرة الداخلية
ايفيت كوبر، على أن "اليمين المتطرف يُظهر من هو وعلينا أيضاً أن نظهر من نحن" في إشارة صريحة إلى تصميمه على وضع حد لهذا "السرطان" الآخذ بالتنامي. وأعلن عن تأسيس وحدة جديدة تابعة للشرطة من أجل مكافحة "الفوضى العنيفة".
وكانت الشرطة اعتقلت أكثر من 100 شخص، فيما دارت معارك كر وفر يومي الثلثاء والأربعاء بينها وبين زعران يعتقد أن غالبيتهم كانت من أعضاء "رابطة الدفاع الإنكليزية" التي أسسها تومي روبنسون قبل سنوات. وأُصيب نحو 50 شرطياً جراء الاضطرابات التي شملت نهب محال وإضرام النار في سيارات للشرطة.
في هذه الأثناء، بدأت الأكاذيب تتدفق مع انتشار خبر عمليات الطعن الفظيعة عبر وسائط التواصل الاجتماعي حول المعتدي الذي لُفقت له أسماء لتصويره على أنه مسلم لاجئ. سرت شائعات عن أنه أتى إلى بريطانيا على متن زورق صغير عبر القنال الإنكليزية. ولم تتوقف هذه الافتراءات رغم أن الشرطة قالت في وقت مبكر إنه بريطاني المولد رأى النور في مدينة كارديف عاصمة إقليم ويلز، لوالدين من راوندا. واتضح لاحقاً أنه مصاب بالتوحد، شارك في جوقة الكنيسة لكنه نادراً ما اختلط بأقرانه.
هكذا لم تلبث القصة التي بدأت باعتداء فظيع راحت ضحيته طفلات بعمر الزهور طعناً بالسكين، أن تحولت إلى تحد خطير للسلم الاجتماعي وميدان للصراع بين صوت المنطق وهياج الحقد الأعمى على المسلمين والمهاجرين قاده ناشطون من أقصى اليمين وأدلى فيه "سياسيون" وصلوا إلى البرلمان بدلوهم. وصارت أشبه بضوء كاشف على المشهد السياسي الحالي في بريطانيا الذي يقوم على أسس التطرف والتحامل على الآخر.
السرعة التي انتشرت فيها هذه الأنباء المفبركة في رقعة متنامية مذهلة. وكان واضحاً منذ البداية أن الأمر يتعلق بـ"قلوب مليانة" أكثر منه بما جرى في ساوثبورت. المتطرفون كانوا سلفاً مستنفرين لاستغلال أي سبب للتعبير بعنف عن كراهيتهم وإن لم تتوافر الذريعة المنشودة عمدوا إلى صناعتها. وسارع إعلاميون ونواب وسياسيون إلى صب الزيت على النار، في موافقة مضمرة وتشجيع غير مباشر للمحتجين.
واللافت أن النائب الشعبوي نايجل فاراج الذي يفترض به أن يساهم في تهدئة الأوضاع لا أن يحرض على تفجيرها، تساءل عما إذا "قالت لنا الشرطة الحقيقة". وتلقف الرعاع عبارات السياسي الذي قالوا له في 27 تموز (يوليو) إنهم من جماهيره وعليه ألا يتجاهل هذه الحقيقة!
أثبت باحثون أن مصدر الادعاءات المعادية للمسلمين والمهاجرين موقع إلكتروني مجهول الهوية يعتقد أن جزءاً كبيراً مما ينشره قد تم توليده عن طريق الذكاء الاصطناعي لإضفاء مسحة من الصدقية عليها.
من الصعب إنكار دور "تيك توك" و"إنستغرام" و"إكس" في تأجيج أحداث الشغب التي شهدتها فرنسا الصيف الماضي والاضطرابات ذات الطابع الطائفي العنيف في الهند وميانمار مثلاً. وباتت منصة "إكس"، منذ اشتراها إيلون ماسك، منبراً مهماً للمتشددين من أمثال روبنسون الذين منعوا لسنوات من استخدامها بسبب عنصريتهم. وكانت هي وشقيقاتها سلاحاً ماضياً في أيدي مروجي نظريات المؤامرة عن حادثة ساوثبورت.
ورغم هذا الدور المؤذي الذي لعبته وتلعبه، هناك جانب آخر لوسائل التواصل الاجتماعي. يُسجل لها أنها ساهمت في إظهار حقائق حرب الإبادة في غزة مثلاً، وتستعمل أحياناً في الترويج لسياسات خضراء. والرسائل التي حملتها لم تدفع الجميع على النزول إلى الشوارع ومهاجمة الشرطة الخ.. من استجابوا للدعوات المتطرفة هم أصلاً متطرفون، ولم تحولهم هذه المنصات إلى عنصريين.
والحق أن الخطاب الشعبوي اليميني الرائج على نحو متزايد، لم يعد مقتصراً على أشخاص يمثلون التطرف "البشع" من أمثال روبنسون الذي فر من البلاد لتجنب المثول أمام المحكمة في جلسة كانت ستنتهي باعتقاله. إنه يتردد على ألسن سياسيين "محترمين"، سواء في حزب "إصلاح المملكة المتحدة" أم في حزب المحافظين.
والتطرف والعنصرية حاضران ويتمددان سلفاً في المجتمع البريطاني بفضل شخصيات "محترمة" مثل وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان والنائبين فاراج زعيم حزب "إصلاح المملكة المتحدة" ورفيقه لي أندرسون نائب رئيس حزب المحافظين سابقاً وغيرهم ممن لا يفوتون فرصة لمهاجمة "الغرباء" والمطالبة بـ"استعادة" بلادهم التي يغزوها الأجانب على حد زعمهم. وبرافرمان "وزيرة الكراهية" لا تمثل جزيرة منعزلة في حزب المحافظين لجهة استهداف المهاجرين والعزف على الوتر البريكستي ومديح الانعزالية التي يسمونها "وطنية".
لذا ستطول معركة ستارمر ضد جماعات أقصى اليمين، ومن الصعب التكهن بالنتائج مهما كان حازماً. ولن يقدر على كمّ أفواه شخصيات سياسية واقتصادية وأعضاء في مجلسي اللوردات والعموم.. ممن ينطقون بخطاب له جذور عميقة في المجتمع.
إنه، باختصار، يحتاج إلى ثورة حقيقية للانتصار على هؤلاء الذين يعيشون في عالمهم بعيداً عن ملايين البريطانيين الطيبين الذين يشكلون الأغلبية الصامتة. فهل هو من نسيج الثوار؟