تتغير قواعد الاشتباك في معارك جبهات المحور الإيراني مع إسرائيل التي حسمت مصير المفاوضات لوقف النار في غزة باعتمادها التصفيات سياسةً ثابتة مقابل تبنّي محور طهران تكتيك الاستنزاف.
لن تؤدي المفاوضات إلى صفقة في المستقبل القريب ولن يتم التوصل إلى صفقة دائمة إلا بعد جولة من المعارك العنيفة، بعضها جديد نوعياً، منها بتزامن عمليات من الجبهة اللبنانية والسورية واليمنية والعراقية التي يسيطر عليها الحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنها بمواجهة مباشرة من نوعٍ ما بين إيران وإسرائيل تتحكم بها قواعد الحرب المضبوطة ذات آليات تحول دون انزلاقها إلى حرب كبرى تدخل فيها الولايات المتحدة طرفاً كحليف استراتيجي لإسرائيل مقابل إيران وأذرعها الأربع.
لن تقع حرب عالمية ثالثة بسبب حرب غزة. فلا روسيا ولا الصين ستدخلان الحرب كشريك لإيران وميليشياتها في وجه أميركا وإسرائيل. ولا الولايات المتحدة تتشوّق إلى حرب مع إيران تتمنى إسرائيل جرها إليها لتحقيق أهداف عدّة في طليعتها تدمير المنشآت النووية لنسف قدرات إيران القريبة جداً من امتلاك القنبلة النووية. لكن التصعيد الخطير آتٍ في زمن الاغتيالات والمفاجآت.
اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران بانفجار داخلي في دار الضيافة الذي يقع تحت إدارة الحرس الثوري الإيراني وحمايته، مفاده أن قدرات إسرائيل على الاختراق الأمني المتكرر في إيران تطوّرت إلى درجة كبيرة، وأن هناك داخل صفوف إيران وأذرعها من يتعاقد استخبارياً مع إسرائيل.
ما لا نعرفه هو إذا كان هؤلاء عملاء محترفين يعملون لدى إسرائيل، أو إذا كانوا معارضين في الداخل الإيراني للنظام، أو أن الصراع الداخلي بين أركان الحكم في طهران وصل إلى مرتبة فائقة الأهمية على نسق تقليم أظافر الحرس الثوري المشرف على تنفيذ السياسة الخارجية الإيرانية المتطرفة، والمعارض للتقارب الأميركي - الإيراني، والمصرّ على استخدام "حزب الله" في لبنان والحوثي في اليمن والحشد الشعبي وعناصر أخرى في العراق و"حماس" في فلسطين لتحقيق مآربه وتثبيت عقيدته التوسعية.
في غضون الأسبوع ذاته، اغتالت إسرائيل القائد الكبير في "حزب الله" فؤاد شكر (الحاج محسن) في مبنى سكني في أحد أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، في رسالة واضحة إلى الأمين العام للحزب حسن نصر الله بأن سلسلة تصفيات لكبار القادة والمقربين جداً من نصر الله هي رسالة إنذار بأن الاستخبارات الإسرائيلية تعرف بدقّة أين هي قيادة "حزب الله"، وأنها هي التي قررت عدم رفع السقف إلى درجة اغتيال أهم شريك للحرس الثوري ولمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي.
الذريعة الإسرائيلية بأن تلك العملية كانت انتقاماً لجريمة قتل الأولاد الدروز في مجدل شمس في الجولان السوري المحتل الذي ضمّته إسرائيل من دون اعتراف دولي، إنما كانت مبرراً وقحاً لأن دروز مجدل شمس عرب رفضوا البطاقة الإسرائيلية. "حزب الله" نفى تهمة إسرائيل بأنه قام بالعملية التي قتلت الأولاد الذين كانوا يلعبون كرة القدم في حقل مفتوح، وفشلت إسرائيل في تسويق تهمتها مع الطائفة الدرزية بجميع مواقعها، لا سيما أن زعيم الطائفة في لبنان وليد جنبلاط تبنّى موقفاً حاسماً ضد استخدام إسرائيل الضحايا الدروز ذريعة.
حسن نصر الله رأى أن "العدوان على الضاحية ليس رداً على ما حصل في مجدل شمس بل هو جزء من الحرب وردّ على جبهة المساندة" لحركة "حماس" في حربها مع إسرائيل. كلامه أتى أثناء تشييع فؤاد شكر وبعد اغتيال إسماعيل هنية وتضمن رسالة عنوانها الرد. قال إن "المعركة كبرى ودخلت مرحلة جديدة وتجاوزت الإسناد. وإيران تعتبر أنه تم المس بسيادتها وهيبتها وشرفها لأن هنية كان ضيفاً لديها. وأقول للإسرائيليين اضحكوا قليلاً وستبكون كثيراً". قال إن الثأر آتٍ "حتماً" و"بيننا وبينكم الأيام والليالي والميدان". وكان لافتاً ما أضافه حسن نصر الله وهو "نحن نبحث عن ردٍّ حقيقي ومدروس جداً وليس رداً شكلياً، وعن فرص حقيقية".
القيادة الإيرانية استدعت قيادات أذرعها إلى دراسة الانتقام الآتي وتنسيقه وتوقيته، وهي في صدد الإعداد لعمليات على كل الجبهات، وربما الاستعداد لعملية تكون رداً مباشراً على إسرائيل انتقاماً من المس بهيبتها وشرفها، كما قال نصر الله.
المعضلة أمام كل من إيران وأذرعها وأمام إسرائيل هي أن مشهد الانتقام مخيف، لكن الانتقام ضروري للتخويف. قد تكون إسرائيل أكثر رغبة بتوسيع رقعة الحرب لدرجة المواجهة المباشرة بينها وبين إيران لأسباب عدّة، من أبرزها رغبتها في دخول الولايات المتحدة الأميركية شريكاً لها في الحرب ضد إيران وأذرعها في لبنان وسوريا واليمن والعراق. هكذا تُسنَح لها فرصة التقويض الجدّي للبرنامج النووي الإيراني الذي يشكّل الأولوية القاطعة لطهران وتريد صيانته بل لن تخاطر به من أجل فلسطين.
ثم إن فتح جبهة الحرب ضد "حزب الله" في لبنان فرصة مفيدة للتخلص من ترسانته العسكرية بصواريخها وملاجئها والتي تستخدمها إيران لتخزين ما تخفيه حتى نووياً.
صحيح أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد أن تخوض حرباً ضد إيران أو حرباً على لبنان، حتى وإن كان عنوانها "حزب الله"، لكن الصحيح أيضاً هو ما أوضحه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بكل دقة وصراحة وهو أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب إسرائيل في حال الحرب لأنهما حليفان. طمأن إلى أن الحرب الموسّعة ليست حتمية، لكن البوارج الأميركية توجهت إلى المنطقة استعداداً وتأهباً لنوعية سلسلة الانتقام.
قد تخدم البوارج الحربية الأميركية - وعددها 12 بارجة و4 آلاف جندي - في ردع عمليات انتقامية كبرى لإيران ومحورها كما لإسرائيل، فيما تحاول إدارة بايدن رسم خطوط حمر لمنع التصعيد لدرجة الحرب الكبرى وتحاول إحياء جثّة المفاوضات لوقف النار في غزة.
إيران منقسمة بين من يفضّل التريث والاعتدال في نوعية الانتقام الضروري والحتمي، وهذا الفريق يضم الرئيس الجديد مسعود بزشكيان الذي عيّن أخيراً وزير الخارجية السابق المعروف بمهندس الاتفاق النووي مع إدارة باراك أوباما محمد جواد ظريف في منصب مساعد الرئيس للشؤون الاستراتيجية. الفريق الآخر يضع الثأر العارم حاجة ضرورية لإعادة الاعتبار ورد الإهانة بقساوة كبرى وعلى رأسه مرشد الجمهورية الأعلى، صاحب الكلمة الحاسمة علي خامنئي. هذا الفريق يشدد على أهمية الرد الشامل الجماعي الضخم، أي من إيران وجميع أذرعها في محور المقاومة، لا سيما أن العمليات الإسرائيلية شملت ضرب ميناء الحديدة في اليمن قبل اغتيال شكر في لبنان وهنية في طهران.
ما في الجعبة ما زال سرياً، لكن الكلام يزداد عن مهاجمة إيران القواعد العسكرية والاستخبارية في تل أبيب، فيما يقوم "حزب الله" باستهداف مقار أمنية وعسكرية في حيفا، ويقوم الحوثي بضرب المرافق الحيوية ومصادر الطاقة في حقل كاريش شرط إمدادهم بالقدرات العسكرية. مرشد الجمهورية أصدر إلى الحرس الثوري أمراً بتزويد الحوثي بما يحتاجه على الفور، كما أمر بتحضير الخطط لاستهداف تل أبيب في ضربة سريعة وقوية تفاجئ إسرائيل.
فالمرشد، حسبما تفيد الأجواء الإيرانية، غاضب جداً ويريد إبلاغ قادة محوره الإقليمي والقيادات الإيرانية الداخلية أن استراتيجية إيران الجديدة لم تعد قائمة على تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو الخوف من حرب كبرى في المنطقة. المرشد يريد للرد أن يكون منسّقاً وأن يتم إبلاغه عسكرياً لإسرائيل وسياسياً للولايات المتحدة.
الرئيس جو بايدن بعث إلى نظيره الإيراني مسعود بزشكيان رسالة تحذيرية جدد فيها التزام الولايات المتحدة وشركائها أمن إسرائيل، وأكد أنهم سيدافعون عنها لو حاولت إيران وحلفاؤها الهجوم عليها. هذا بحسب ما نقلته صحيفة "الجريدة" نقلاً عن مصدر في مجلس الأمن القومي الإيراني. وبحسب الرسالة التي نُقلت عبر السفارة السويسرية، طالب بايدن بضبط النفس وتجنب التصعيد وأكد أن الأميركيين لم يكونوا على علم باغتيال هنية وهم مستعدون للتوسط لإيجاد صيغة رد منسق يحفظ ماء الوجه للإيرانيين. وبحسب المصدر نفسه، عندما تسلّم المرشد علي خامنئي الرسالة من الرئيس بزشكيان، أمره بعدم الرد عليها.
إسرائيل في حالة تأهب قصوى استعداداً لرد وشيك تتوقعه من "حزب الله" وإيران، وهي بدورها تدرس بنك الخيارات للرد على الرد والانتقام من الانتقام. وهذا أمر تأخذه إيران في حساباتها وهي تضع الخطط لعملياتها. وبحسب مصادر مطلعة على التفكير في طهران، فإن إيران تدرس ماذا ستكون طبيعة الرد الإسرائيلي على الانتقام الإيراني قبل اتخاذ القرار النهائي بشأن طبيعة العمليات المنسقة لإيران ومحورها.
بحسب المعلومات، تقول إيران لأصدقائها إنها ليست في عجلة من أمرها للقيام بالانتقام الحتمي وهي تفضل الانتظار قليلاً لقراءة المشهد الإسرائيلي وتطوراته في الأيام المقبلة. أما إذا لجأت إسرائيل إلى حماقة إجراءات استفزازية جديدة، فإن ذلك سيؤثر في توقيت ردود المحور الإيراني وفي نوعيته.
ويجدر الذكر هنا أن إسرائيل لم تتبن عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران. هناك من لا يستبعد أن تكون عملية الاغتيال آتية من خلفية صراعات إيرانية - إيرانية، وفلسطينية - فلسطينية، وربما إيرانية - فلسطينية. لكن هذا لا يستثني أن تكون إسرائيل وراء اغتيال هنية في طهران.
كل شيء وارد الآن في حلقة الثأر والانتقام، لكن جهود التهدئة ما زالت مستمرة بشراكة أميركية - أوروبية وذلك عبر السعي لإقناع إيران بعدم الوقوع في فخ الاستفزاز والاستدعاء الإسرائيلي إلى حرب شاملة. ومن جهة أخرى، عبر الضغط على إسرائيل كي لا تنسف المفاوضات وتستبدل بها استراتيجية التصفيات.
الجميع في انتظار وترقب للجولة المقبلة من هذه الحروب الصغيرة. الأكثرية واثقة بأن تلك الحرب العالمية الكبرى لن تنطلق من الشرق الأوسط. فالحرب الموسّعة تخيف جميع اللاعبين، الإقليميين والدوليين.
ما أوضحته التطورات خلال الأسابيع القليلة الماضية هو أن إيران تخاف من تداعيات الحرب الموسّعة على مصالحها النووية والميليشوية. وربما تفضل العض على الشفة في إطار صبرها الاستراتيجي كي لا تتسبب في خسارة الحزب الديموقراطي الانتخابات الرئاسية الأميركية، تنتهي بإيذاء نفسها في ظل فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة. فالمصالح قبل المبادئ، لا سيما في زمن كلفة التهوّر الاستراتيجي مقابل فوائد الصبر الاستراتيجي.