لم يكن من المتوقع استنساخ موجة الشغب التي اجتاحت قبل أيام بلدة ساوثبورت في شمال إنكلترا. وكان الأمل أن تنتهي بالإعلان عن اسم قاتل الطفلات الثلاث أواخر الأسبوع الماضي. بيد أن الشرارة التي أضرمها المتطرفون الباحثون عن ذريعة "للتعبير عن الكراهية"، بحسب كير ستارمر رئيس الوزراء، بقيت عصية على الإخماد. واتسعت رقعة العنف لتصل إلى ويلز وإيرلندا الشمالية.
ودخلت الاضطرابات يومها الرابع، ما يرشحها للتفوق من حيث الاستمرارية على أحداث الشغب الأطول مدة في تاريخ بريطانيا الحديث: اضطرابات لندن التي استغرقت ٥ أيام في آب (أغسطس) ٢٠١١. ولم تتوفر إحصاءات للجرحى من الشرطة والمدنيين بعد، فيما كان عدد المعتقلين (٩٠ شخصاً) حتى صباح ٤ آب، أقل من معدلاته القياسية. وساهم ستارمر بوصفه مدير سلك الادعاء العام في إنكلترا وويلز في ٢٠١١، مساهمة موفقة في وضع حد لتلك الأزمة. وقد أبقى المحاكم مستنفرة حينذاك على مدار ٢٤ ساعة، كما هي حالياً، لإصدار الأحكام السريعة.
هكذا لم تكد تصمت الحناجر التي رددت الأسبوع الماضي الشعارات العنصرية والمعادية للإسلام، حتى انطلقت من جديد ليل الجمعة في ٢ آب في مدينة سندرلاند شمال إنكلترا، فيما راح أصحابها يهاجمون الشرطة ويعبثون بما حولهم من مؤسسات ومخازن سرقت بعض محتوياتها وأشعلت النار في بعضها الآخر. وسرعان ما أُتخمت رسائل الناشطين ورموز التطرف من "المؤثرين" الذين يتبعهم ملايين الأشخاص، وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات غير دقيقة.
وذكرت صحف شعبية منها "ديلي إكسبرس"، أن روسيا كانت تساهم سراً في بث الأكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتأجيج الاضطرابات. وفي حين أن هذه الصحف لا تحظى بصدقية كبيرة، من الصعب استبعاد وجود علاقة بين موسكو والمتطرفين البريطانيين باعتبارها متحالفة مع شطر كبير من رفاقهم في الغرب.
في هذه الأثناء، استجابت جموع المتشددين لدعوات الى المشاركة في التظاهرات في ٣٥ مدينة وبلدة شملت معظم كبريات المدن الإنكليزية من ليفربول ولييدز ودونكاستر وغيرها في شمال إنكلترا ووسطها. ودخل مئات من الوحدويين (بروتستانت) والجمهوريين (كاثوليك) في بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية على خط الاضطرابات، إذا كانت هناك حشود هتفت بشعارات مناوئة للإسلام والمهاجرين. كما تظاهر عديدون في كارديف عاصمة إقليم ويلز. وتعرض العديد من الفنادق ودور الإقامة الموقتة للاجئين في بعض أنحاء البلاد لهجمات المتظاهرين.
وفي خطوة أعادت الأمل بأن الدنيا لاتزال بخير، هرع أبناء ساوثبورت بالأمس للتعاون على تنظيف بلدتهم من آثار العدوان، وتطوع بناؤوها لترميم بناء المسجد الذي عبث به الزعران. وبالمثل، كان يوم السبت لافتاً، خرج فيه قادة نقابيون مثل ميك لينش، وحشود من النساء والرجال، من شتى الخلفيات الدينية والعرقية وبينهم متقاعدون، في العديد من المدن في مسيرات مضادة للعنصرية والتطرف.
وفاق هؤلاء مسيرات "الكراهية" من حيث العدد أحياناً وأجبروها على التراجع في مانشستر وليستر وبريستول ومدن أخرى، حيث هتفوا لنصرة المسلمين واللاجئين ودافعوا عن أماكن إقامتهم، كما رفعوا أعلام فلسطين. وكان العشرات من عناصر الشرطة حاضرين دوماً للفصل بين الطرفين.
وكشفت الجولة الثانية من أعمال الشغب التي يقال إنها ستستمر لأيام عدة عن جوانب مهمة تساعد على قراءتها بصورة أدق مما مضى. تبين أن تومي روبنسون، الذي فرّ من وجه العدالة قبل نحو أسبوع، بقي مستعداً لتوجيه التعليمات عبر وسائل تواصل اجتماعي، وشحذ الهمم. ولم ينسَ أن ينشر سيلاً من المبالغات التي تجافي الحقيقة، ويعرض "تقديم مساعدة قانونية" لمتطرفين اعتقلوا خلال "مسيرات الكراهية"، وكأنه يدير منظمة متكاملة! وهو يبدو مضطرباً في أشرطة الفيديو التي يبثها عبر "إكس"، تدل لغة جسده ونبرة صوته التي لاتزال حادة على عادتها، بأنه شخص مريض أو موتور أو كلاهما.
من ناحية ثانية، برز النائب نايجل فراج الملقب بـ " الوجه الأنيق لروبنسون"، على صعيد تشجيع المتطرفين بشكل غير مباشر. وأُخذ عليه انتقاد الشرطة والتشكيك بصدقها وصراحتها، وهو ما يحفز الزعران على استهدافها. وبدلاً من أن يعبر عن آرائه ويطرح الأسئلة تحت قبة البرلمان بحرية مطلقة حتى يحصل على الإجابات الشافية، راح الزعيم الشعبوي يفرغ ما في جعبته عبر إكس ومنصة "تروث سوشال" الترامبية وأيضاً من خلال شاشة تلفزيون "جي بي" اليميني. أي حرص على مخاطبة جمهوره لصبّ الزيت على النار بدلاً من معالجة المسائل الأمور بالطريقة الصحيحة.
والواقع أنه في حاجة لتسخين الوضع الحالي، لأنه أعطاه عملياً المنصب الذي طالب به قبيل الانتخابات، وهو زعامة المعارضة. فصاحب هذه الوظيفة، ريشي سوناك رئيس الوزراء السابق زعيم حزب المحافظين، يلزم الصمت بينما يتقاتل حزبه مع نفسه. وربما لم يجد سوناك حاجة للظهور طالما أن المتظاهرين العنصريين تبنوا شعاره الشهير "أوقفوا الزوارق". وفي المحصلة كان فاراج هو الصوت المعارض للحكومة وإمعانه في قول ما يريده على الملأ لكسب المزيد من المعجبين، يحمل المرء على التشكيك بالديموقراطية نفسها. فما جدوى الانتخابات النيابية إذا كان هناك من يخوضها لكي يلمع صورته بعيداً عن المنابر البرلمانية الجادة التي يمكنه أن يساهم من خلالها في العثور على حلول مجدية؟
في سياق متصل، تردد أن هناك انشقاقات بين المتطرفين. ونسب إلى مارك كوليت زعيم منظمة "البديل الوطني" العنصرية مناشدة رفاقه عدم مهاجمة المساجد، ليس لحسن أخلاقه، بل لحمايتهم من الاعتقال. لكن الدعوة المزعومة لم تؤثر كثيراً في حدة الجرائم التي ارتكبت في ٢ و٣ آب. وبدورها، لم تكفِ جهود ستارمر ووزيرة الداخلية ايفيت كوبر الحثيثة لتهدئة الأحوال. والحق أن مكافحة المتطرفين في مجتمع يتغلغل فيه داء الاسلاموفوبيا وتسممه العنصرية ستستغرق زمناً طويلاً لأسباب يحتاج الخوض فيها إلى وقفة خاصة.