لا تزال حكومة "طالبان" في العاصمة الأفغانية كابول تستغل الأوراق التي تساعدها على الاعتراف الدولي بسلطتها التي اكتسبتها بقوة السلاح عقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان في 31 آب (أغسطس) 2021. وأهم هذه الأوراق المسألة الأمنية والخشية من فراغ السلطة، خصوصاً في ظل تنامي تنظيم "داعش-خراسان" الذي بات تهديداً أمنياً للدول الشرقية المجاورة وكذلك للدول الغربية البعيدة على حد سواء، ما فرض ديناميكية اتصالات استخبارية بين تلك الدول من أجل مراقبة الجماعات المتطرفة داخل أفغانستان، لا سيما أن الهجوم على قاعة للحفلات الموسيقية في موسكو في 23 آذار (مارس)، الذي تبناه ذلك التنظيم، وضع العالم الغربي على أهبة الاستعداد لمواجهة التنظيم المتشدد. وقد تأكدت مخاوف أوروبا مع استضافة باريس الأولمبياد والكشف عن أعمال تخريبية يقف وراءها ذلك التنظيم أيضاً.
تعاون ضد "داعش-خراسان"
دفعت المخاوف من "داعش-خراسان" بلداً مجاوراً مثل إيران إلى أن تقبل بتسليم القنصلية الأفغانية في مدينة مشهد إلى حكومة "طالبان" غير الشرعية، بذريعة تيسير تقديم الخدمات للمهاجرين الأفغان، بينما الأمر يتعلق أكثر بأهمية الحفاظ على الاتصالات مع تلك الحكومة من أجل مصالح الأمن القومي. وإلا ما كانت طهران تسمح للنائب السياسي لحكومة "طالبان" محمد عبد الكبير، بالمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، بصفة رسمية.
ذلك الأمر يمتد أيضاً إلى القوى الغربية، فالولايات المتحدة التي غادرت أفغانستان كرهاً تريد العودة الآن طواعيةً، من خلال تعزيز اتصالاتها بحركة "طالبان" الحاكمة. لذلك لا يمكن تجاهل تحذيرات رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي مايكل ماكول، من أن تنظيم "داعش-خراسان" سيشق طريقه في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة. ما يشير إلى رغبة واشنطن في الحفاظ على "طالبان" وليس تدميرها ما دامت ستحافظ على مهمة التصدي لذلك التنظيم.
فواشنطن لا تعارض تبادل المعلومات مع جماعة حاكمة تمثل منافساً قوياً لتنظيم "داعش-خراسان"، خاصة أنها فقدت قدراتها الاستخبارية داخل الساحة الأفغانية منذ انسحابها من هناك. وهذا الاتصال بـ"طالبان" هو لهدف أكبر يتعلق بإيجاد مبرر للوجود في تلك المنطقة المحاذية للحدود الروسية والصينية الجنوبية.
كذلك بالنسبة إلى باكستان البلد المجاور لأفغانستان والحليف للولايات المتحدة، فإن مسألة مراقبة الجماعات المتطرفة فرصة لتعزيز التعاون الأمني بين الطرفين، بخاصة أن حكومة إسلام آباد لديها خلافات مع حكومة كابول، في ظل تنامي تهديدات جماعة "طالبان-باكستان" التي تمتد على طول الحدود الباكستانية مع أفغانستان. لذلك توصلت حكومة باكستان بعد سلسلة محادثات مع الولايات المتحدة، انتهت في 10 أيار (مايو) الماضي، إلى اتفاق على تبادل المعلومات بخصوص تنظيم "داعش-خراسان" و"طالبان" الباكستانية.
إنكار وجود "داعش-خراسان"
في مفارقة عجيبة، تنكر "طالبان" أي وجود لتنظيم "داعش-خراسان" على أراضيها، بينما هي تستمد قوتها من وجوده. فقد نفى وزير داخليتها سراج الدين حقاني أي وجود لـ"داعش"، بينما تم عزل رئيس استخباراتها في ولاية هرات، مولوی عبد الکریم محبوب، بسبب انتمائه إلى ذلك التنظيم.
بل ذهبت "طالبان" إلى أبعد من ذلك برمي الكرة خارج أفغانستان، إذ قال وزير خارجيتها أمير خان متقي في 18 تموز (يوليو) الماضي، إن "هناك قواعد لتنظيم داعش في دول المنطقة، ويجب على العالم التحرك الجاد لتدميرها، لأن مخططي الأحداث الأمنية التي تتعرض لها أفغانستان يأتون من الخارج"!
وعلى أرض الواقع، هناك اختراق لتنظيم "داعش" بين صفوف حركة "طالبان"، وآخرها قتل ثلاثة من عناصرها في ولاية غور. ما يدل على أن أيديولوجيا "داعش-خراسان" العابرة للحدود قد تنجح في اختراق "طالبان" التي لا تريد أن تُظهر أي تطلعات خارجية قد تضعها في مواجهة مع دول الجوار أو القوى الخارجية.
ولا يغيب أن حركة "طالبان" عملت لسنوات تحت إمرة الاستخبارات الباكستانية، ولذلك تعلم قادتها جيداً كيف يؤمنون حياتهم من خلال تعزيز صناعة الإرهاب! فالاعتراف بوجود تنظيم "داعش-خراسان"، يعني الاعتراف بفشل الحركة الحاكمة في القيام بالدور الذي يمنحها البقاء، وهو التصدي لذلك التنظيم.
ولذلك أيضاً، بينما تنكر الحركة الأفغانية استضافتها جناح "طالبان-باكستان" على أراضيها، حتى لا تدخل في صدام مباشر مع حكومة إسلام آباد، إلا أن الخارجية الباكستانية عمدت إلى نفي رواية "طالبان"، إذ أعلنت المتحدثة باسمها ممتاز زهرا بلوتش في 1 آب (أغسطس) 2024، أن تقارير مجلس الأمن الدولي تؤكد ادعاءات باكستان بوجود جماعات إرهابية في أفغانستان.
بناء قاعدة من المعلومات
هناك حاجة لمراجعة في فهم التنظيمات المتطرفة والعابرة للأقطار بعدما تمكنت "طالبان" من السلطة في كابول، بخاصة أن تنظيماً مثل "القاعدة" يمارس الآن الصبر الاستراتيجي ولا يمكن ادعاء انتهاء وجوده، بالإضافة إلى استضافة أفغانستان تنظيمات عدة ذات أهداف قومية وأخرى عابرة للحدود. وهذا يستدعي إعادة بناء قاعدة المعلومات حول تلك التنظيمات.
فقد أعلنت الخارجية الأميركية أخيراً من خلال برنامج "المكافأة من أجل العدالة" عن جائزة تصل إلى 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى تعطيل المخططات المالية لتنظيم "داعش-خراسان"، وذلك بعد توافر معلومات عن أن ذلك التنظيم يموّل عملياته من خلال تهريب المعادن التي يستخرجها من ولاية ننكرهار شرق أفغانستان، إلى جانب تهريبه التبغ والسلع وفرضه جباية على السكان المحليين. ولذلك تعمل الخارجية الأميركية على الكشف عن الشركات والأفراد المتعاونين مع ذلك التنظيم والتي تساعده في إدارة أعماله التجارية والمصرفية.
والمحصلة، أن رغبة "طالبان" في البقاء تدفعها إلى الحفاظ على مرحلة التمكين أولاً، التي ربما لن تنتهي بوجود نظام لا يمتلك تطلعات خارجية. بل قد يضعنا في النهاية أمام نظام ديني لديه تطلعات خارجية. فتركيز "طالبان" على نشر المدارس الدينية، واستمرار الاحتفاظ بوجود الجماعات المتطرفة الأجنبية، ربما يدفعها للاستفادة من تلك التنظيمات في تنفيذ أجندة خارجية على غرار التجربة الباكستانية.