لا يمكن أي طرف القول إن الحرب المرتقبة التي قد تكون وقائعها بدأت فعلاً، ما كان يجب أن تقع، أو كان ممكناً تجنبها أو منعها. أما العبارة التي تردّدت كثيراً في الأيام الأخيرة، بأن أحداً لا يريد الحرب، فتبيّن أنها كاذبة ومخاتلة. كل الأطراف، من إسرائيل والولايات المتحدة إلى إيران وميليشياتها، أرادتها وسعت إليها، على طريقتها، بتوقيتها وقواعدها. لكن الواقع المحتقن الذي تعيشه المنطقة يصعب ضبطه بلا مفاجآت واستفزازات، وبلا جرائم قذرة قذارة الحرب التي خاضتها إسرائيل ولا تزال بمجازر يومية لا توفّر مخيمات نزوح أو مدارس إيواء أو مستشفيات، ولا تمتنع عن اغتيالات مستهدفة في طهران أو في الضاحية الجنوبية لبيروت، فقط لإثبات أن يدها طائلة واختراقاتها الأمنية عميقة، وفي الوقت نفسه إثبات قصر نظرها إزاء "خطر وجودي" تدّعي أنه يتهدّدها، فليس بجرائم الإبادة الجماعية أو بالتجويع يمكن أن تحمي أمنها واستقرارها.
كيف لا تتوسّع الحرب على غزّة ما دام الذين ملأوا الشهور العشرة الماضية كلاماً عن حصرها لم يفعلوا عملياً سوى الدفع لإشعالها؟ تحرّك الأميركيون على مدار الأيام وكرّروا أنهم يبذلون جهوداً لئلا تمتد الحرب إلى خارج غزّة، لكنهم أحجموا عن الخطوة الضرورية واللازمة التي يمكن أن تحقّق هذا الهدف: وقف إطلاق النار في غزّة. أدارت واشنطن الحرب أو اعتقدت أنها أدارتها، لكن بنيامين نتنياهو هو مَن أدارها، وأصبح مؤيدو إسرائيل ومعارضوها موقنين اليوم بأن "أجندة نتنياهو" هي التي سادت وتفوّقت، إذ خدع الجميع وتلاعب بهم، بمن فيهم الرئيس الأميركي نفسه. ألم يقل له في الاتصال الأخير إنه يعمل وفقاً للمتطلبات الأمنية لإسرائيل"؟ أي أنه وحده يعرف مصلحة إسرائيل وليس مضطراً لأخذ مصلحة أميركا في الاعتبار.
لم ينسَ أحد أن واشنطن حرّمت على نفسها وعلى حلفائها الغربيين مجرد التلفّظ بـ"وقف إطلاق النار" أو "وقف الحرب"، وفرضت "فيتو" تلو الآخر لمنع أي قرار دولي يدعم هذا الخيار، لئلا يعرقل سعي حليفها الإسرائيلي إلى "تدمير حماس". ولم ينسَ أحد أن كل مطالبات أميركا بتجنّب المدنيين وزيادة المساعدات الإنسانية لم تحرز أي تحسّن يُذكر. بل ظلّ تحركها "لمنع توسيع نطاق الحرب" في إطار عدم إزعاج الإسرائيليين وتغطية جرائمهم، وأصبحت مشاركة في هذه الجرائم، فيما وجّهت مساعيها إلى الأطراف الخارجية، بما فيها إيران، وطلبت مساعدة العرب والأوروبيين لإبقاء الحرب في غزّة، ولم تكن مستعدة لأي تنازل، والآن تبيّن عجزها عن التنازل، لأن القرار عند نتنياهو. تأخر الرئيس جو بايدن كثيراً جداً في طرح "صفقة" الهدنة وتبادل الأسرى، وعندما فعل اكتشف أن "الاقتراح الإسرائيلي" الذي تبنّاه لم يكن سوى خدعة أخرى، لأن نتنياهو لا يريد وقفاً لإطلاق النار ولا يهتم باستعادة الرهائن، بل إنه يفاوض لإفشال بايدن ومواصلة الضغط على "حماس" بالمجازر وتعجيز الوسطاء بالشروط الجديدة.
عندما صار الخلاف بين نتنياهو ووفده المفاوض علنياً وازدادت ضغوط ذوي الرهائن، وجد أن الاغتيالات يمكن أن تساعده لتضليل الجميع، حتى لو فتحت مرحلة جديدة في الحرب. قيل إن بايدن رفع صوته في لوم حليفه المتمرّد على ذهابه إلى طهران لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، مستدرجاً إيران إلى حرب، لكنه طمأنه خلال الاتصال نفسه إلى أن أميركا ستساعد إسرائيل على إحباط أي هجوم إيراني. هذا ما أراد نتنياهو سماعه، أما الكلام الآخر عن اتفاق حول غزّة فلا ردّ عليه سوى "المزيد" من التفاوض إلى ما لا نهاية.
في الأثناء كان أنطوني بلينكن يجري اتصالات هنا وهناك داعياً "جميع الأطراف" إلى "تجنّب التصعيد"، وهي دعوة جوفاء لا معنى لها سوى الموافقة الضمنية على أن تغتال إسرائيل هنية وما على طهران سوى أن تضبط النفس ولا تردّ، والموافقة أيضاً على اغتيال فؤاد شكر وما على "حزب الله" سوى أن يتقبّل القضاء والقدر. تحدّث بايدن ووزيره كما فعلا طوال الشهور الماضية متجاهلين أن إيران ومحورها دخلا على خط الحرب لـ"مساندة غزّة" ولكن أيضاً تطبيقاً لاستراتيجية "وحدة ساحات المقاومة". أما إسرائيل ففعلت العكس، إذ تعاطى نتنياهو وحلفاؤه في اليمين المتطرّف مع "طوفان الأقصى" على أنه هجوم إيراني وليس فقط هجوماً من "حماس"، ورأوا في فتح جبهة جنوب لبنان تأكيداً لـ"إيرانية" الهجوم، ولذلك مالت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى أن تبدأ الحرب ضد "حزب الله"، لكن الإدارة والبنتاغون ارتأيا التركيز على قطاع غزّة وقصر الحرب عليه، فاستجابت إسرائيل لكنها استخرجت خططها القديمة المحدثة لإبادة غزّة بشراً وحجراً، ولطرح سياسة تهجير الفلسطينيين من القطاع والضفة الغربية.
لا تزال هذه الخطط قيد التنفيذ، وهي التي قادت وتقود إلى الحرب الموعودة، "الشاملة" أو الكبرى كما توصف، وعلى رغم أن خطورتها القصوى بالغة الوضوح لم تفعل الولايات المتحدة ولا الدول الغربية الحليفة شيئاً لوقفها في الوقت المناسب، بل تركتها تتحكّم بحاضر الوضع الفلسطيني، والشرق - أوسطي عموماً، ومستقبله. فالدم والدمار وانعدام مقومّات الحياة في غزّة لا تؤسس لأي مستقبل.
وبالطبع لم تتمكّن المساهمة الإيرانية من إحداث أي تغيير في مجرى الحرب سوى الوعد بحرب أوسع وأطول، وهو الحاصل اليوم، من دون تعريض إيران نفسها أو مشروعها للخطر. على العكس هي تتقدّم في مشروعها النووي، وقد تفجّر مفاجأة في هذا المجال. أما الحماية الأميركية للعدوانية الإسرائيلية فأرادت دائماً أن تحسم ميدانياً، لإبقاء أي حرب إقليمية "محدودة"، بمعنى أن تبقي حال الحرب دائمة وواعدة بحروب أخرى، وفي ذلك مصلحة لإسرائيل أولاً وأخيراً.