منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران في الأيام الماضية، والجدل حول اختيار خليفة له لم يتوقف، في ظل تسريبات تنذر بخلافات بين أعضاء مكتب الشورى العام على المفاضلة بين إجراء الانتخابات الداخلية أو تعيين رئيس مؤقت من مجموعة من الأسماء التي تتمتع بمساحة كبيرة من التأثير السياسي والعسكري داخل حركة المقاومة الفلسطينية.
على الرغم من الإطار المؤسسي الذي تتبعه حركة "حماس" في اختيار وتصعيد قياداتها، فإن ثمة عوامل أخرى تحدد ملامح عملية اختيار القيادات، منها ما يرتبط بالعلاقة الفكرية والتاريخية المتعلقة بجماعة "الإخوان المسلمين"، في ظل ميول قيادات التنظيم الدولي لـ"الإخوان" إلى تقديم خالد مشعل كبديل مؤقت لإسماعيل هنية، لما يتمتع به من علاقات واسعة وقوية مع كل من معسكري قطر وتركيا.
إن الولاء التنظيمي لقيادات الحركة مع جماعة "الإخوان المسلمين" يفرض على الحركة الانصياع لمحددات وتوافقات الإطار السياسي، وتصورات العمل الحركي للتنظيم الدولي للجماعة، لا سيما أن المادة الثانية من بنود ميثاق تأسيسها الصادر في عام 1988 اعتبر أنها "جناح" من أجنحة "الإخوان المسلمين"، فضلاً عن أن عملية فك ارتباطها مركزياً عن جماعة "الإخوان" في عام 2017، جاء بتعليمات تنظيمية وفق الإجراءات التي اتخذتها الجماعة لحماية فروعها من التصنيف على قوائم الإرهاب في الأقطار المختلفة، وليس من قبيل التمرد التنظيمي أو الأيديولوجي.
من بين هذه العوامل كذلك الدول الفاعلة في مسارات القضية الفلسطينية، مثل إيران وسوريا وقطر ومصر وتركيا، لا سيما في ظل حالة الارتباك التي ترسم المشهد الإقليمي الراهن، وتأثيرات عملية الاختيار على فاعلية التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، إذ إن الحركة تمثل نقطة تلاقٍ لمجموعة من القوى الإقليمية المتصارعة في الشرق الأوسط.
الإشكالية التي تنذر بتوسيع دائرة الخلاف الداخلي داخل "حماس" تتمثل في قدرة يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي للحركة في قطاع غزة، وسيطرته على القرار السياسي والعسكري، بجانب هيمنته على "كتائب القسام"، والذي أبدى اعتراضه على تنصيب خالد مشعل، مفضلاً تقديم خليل الحية لرئاسة المكتب السياسي مؤقتاً، لحين إجراء الانتخابات الداخلية، لما يتمتع به من علاقات قوية مع كل من سوريا وإيران.
إن التمعن في قراءة شخصية يحيى السنوار، مهندس عملية "طوفان الأقصى"، في إطار تنقله بين مؤسسات الحركة السياسية والعسكرية، وجهوده في تطوير نظامها الأمني الداخلي، وتوليه مسؤولية "كتائب القسام"، والتنسيق بينها وبين قيادات المكتب السياسي، وتقييماته الشاملة لأداء القيادات الميدانية، وإقالته عدداً من القيادات البارزة في عام 2014، انتهاءً برئاسته المكتب السياسي للحركة في قطاع غزة، منذ شباط (فبراير) 2017، فضلاً عن اطلاعه الواسع حول طبيعة النفسية الإسرائيلية، وطرق عمل أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، يبرز تغليبه العمل المسلح على المسار السياسي، مع طموحه في رئاسة دائرة صنع القرار، لا سيما عقب اغتيال إسماعيل هنية، وتصدع علاقته بغريمه خالد مشعل.
طرحُ السنوار خليل الحية لتولي رئاسة المكتب السياسي مؤقتاً يمهد للمزيد من سيطرته على مقاليد حركة "حماس"، وتحويل الحية إلى ستارة خلفية يتحرك في ظلها، لحين صعوده على قمة المشهد الداخلي سياسياً وعسكرياً عبر الانتخابات المقبلة، مثلما فعل من قبل مع إسماعيل هنية، الذي وقع في النهاية كضحية للطموح السياسي والعسكري للسنوار.
حالة التنافس الظاهرة بين جناحي السنوار ومشعل تحكمه أبعاد شخصية في المقام الأول، في ظل رؤية كل منهما أحقيته بالزعامة الروحية لحركة "حماس" والمجتمع الفلسطيني، مع تناقض رؤيتيهما ووجهتيهما الجيوسياسيتين في الارتماء في أحضان القوى الإقليمية، إذ يميل مشعل إلى التقرب من الدول العربية السنّية والابتعاد عن "محور المقاومة" الشيعي الذي تقوده إيران، فيما ينظر السنوار إلى هذا المحور ركيزة استراتيجية وشريكاً كاملاً في الحرب ضد إسرائيل.
موقف مشعل ودعمه أحداث الربيع العربي أخرجته من عباءة محور إيران والرئيس السوري بشار الأسد، لا سيما عقب عبارته المشهورة "من يدعمنا في الحق لا ندعمه في الباطل"، والتي كانت كفيلة لإطاحته من رئاسة المكتب السياسي لحركة "حماس" بعد أكثر من عشرين عاماً (1996-2017)، في ظل ترتيبات سرية قادها يحيى السنوار، دفعت بإسماعيل هنية إلى واجهة حركة "حماس"، مع سيطرة الجناح الأمني على الدائرة السياسية، لضمان استمرار الدعم المالي والسياسي من طهران.
على رغم الأهداف المشتركة بين خالد مشعل ويحيى السنوار، فإن وسائلهما في القضاء على إسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية مختلفة ومتباينة، حول عوامل توظيف القوة والتوافق السياسي مع الأطراف الفاعلة، لا سيما في ظل رفض السنوار الدخول في أي توافقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، فيما لا يمانع مشعل التشارك معها في أي انتخابات مقبلة تمنح "حماس" مساحة للبقاء في مرحلة ما بعد الحرب، ويعززان موقفها في ما يتعلق بالهيمنة الوطنية على المدى البعيد.
ففي وقت يرى السنوار أن "حزب الله" يمثل نموذجاً للحفاظ على القدرات العسكرية، فإن مشعل يعتبر أن المقاومة قد تتخذ أشكالاً متعددة لا تقتصر على العنف، منتقداً تغيير ميزان القوى في الحركة، من خلال تعزيز "قطاع غزة" والمحور العسكري، على حساب المسار السياسي وقيادة الحركة في الخارج، كما أوضح خلال مؤتمر "رواد بيت المقدس" في أيار (مايو) 2023، بقوله: "إن ’حماس‘ لا تخوض المعارك بالسلاح والمقاومة فحسب، بل تديرها في الداخل والخارج بحزم واقتدار"، مشيراً إلى أن تكتيكات المقاومة وأعمالها والمواجهة من هنا وهناك من أجل التجهيز لمعركة التحرير.
ربما يدفع تصاعد الخلافات قيادات الحركة إلى تنصيب رئيس مجلس الشورى المركزي، المعروف بـ"أبو عمر حسن"، لقيادة عملية التنسيق بين رؤساء المكاتب السياسية الثلاثة (غزة والضفة الغربية والخارج) مؤقتاً، إلى حين إجراء الانتخابات الداخلية بعد أربعة أشهر، والخروج من دائرة التصدع الداخلي، خشية الوقوع في فخ الانشقاق، وترك القرار للصندوق الانتخابي، والذي يتوقع أن يحسم رئاسة المكتب السياسي لمصلحة يحيى السنوار، لما يتمتع به من نفوذ قوي على المستويين السياسي والعسكري.