أضحت مواقع التواصل الاجتماعي التونسية تعج بإعلانات عروض الشغل في الخارج. تشمل هذه العروض مهارات، بعضها يدوي كان آخر ما يبحث عنه التونسي في بلاده، حتى عندما يكون عاطلاً من العمل.
إمكانية التشغيل في الخارج أعطت بعداً جديداً للتدريب المهني، إذ أصبح مسلكاً من مسالك الهجرة النظامية نحو أوروبا.
في هذا النطاق، أصبحت تخصصات مثل التمريض تجذب أعداداً متزايدة من الحاصلين على شهادة الثانوية العامة الذين يبحثون عن مجالات واعدة في دراساتهم الجامعية.
السلطات التونسية نفسها أصبحت ترى في التدريب المهني أساساً لإبرام اتفاقيات للتعاون مع البلدان الأوروبية وباباً للتشغيل في الخارج.
يقول المسؤولون إنهم بدأوا منذ السنة الماضية تطوير برامج للتعاون مع الدول الأجنبية المستعدة لتغطية تكاليف تدريب أعداد من الشباب التونسيين وتشغيلهم في بلدانها.
في هذا الإطار أبرمت السلطات التونسية الشهر الماضي اتفاقية مع الجامعة الإيطالية للبناء ينضوي بمقتضاها ألفا شاب تونسي في نطاق برنامج للتدريب التقني واللغوي تمهيداً لتشغيلهم في إيطاليا في مهن مرتبطة بقطاع البناء. وكانت تونس قد اتفقت قبل ذلك مع سويسرا على تدريب أعداد من الشباب التونسي على تركيب الألواح الشمسية وصيانتها. ومن المتوقع أن تتبع ذلك اتفاقيات مع بلدان أوروبية أخرى.
يبدو الطرفان رابحين من هذه المقاربة. ففي الوقت الذي تساعد فيه هذه البرامج تونس على التخفيف من عبء البطالة لديها، فهي تستجيب لحاجة أوروبا للمهارات الشابة.
تحتاج القارة الأوروبية إلى يد عاملة ومهارات شابة في مختلف الاختصاصات. وتقول دراسات الاتحاد الأوروبي إن بلدان القارة الأوروبية تعاني عجزاً في المهن اليدوية بعكس الفائض الذي تواجهه في التخصصات التي تتطلب تعليماً جامعياً طويل الأمد.
كما تقول هذه الدراسات أن أكبر طلب على الصعيد الأوروبي سنة 2014 هو على السباكين واللحامين وسائقي الشاحنات والميكانيكيين إلى جانب الممرضين والنوادل.
الاهتمام الأوروبي بالتعاون مع تونس قد يساعد أيضاً التونسيين على تجاوز جملة من الأفكار المسبقة حول التدريب المهني. فالاستنكاف من المهن اليدوية جزء من عقلية قديمة استبطنها الشباب التونسي منذ أجيال بتأثير من مجتمعه.
تثمن هذه العقلية العمل المكتبي والإداري وتستنقص المهن اليدوية رغم أنها مهن ذات ربحية مضمونة ولا يصيبها أبداً الكساد.
لم تتغير النظرة السلبية إلى العمل اليدوي والتي بقيت تصوره على أنه رديف للفشل المدرسي، حتى أن وزيرة التربية نفسها قالت منذ مدة ليست بالبعيدة إن التلاميذ المتورطين في محاولات الغش في امتحان الثانوية العامة هذا العام سوف يوجهون إلى مدارس التدريب المهني.
بقيت المهارات اليدوية مهمشة ومفصولة تماماً عن بقية مناهج التعليم رغم حاجة المجتمع إليها وقدرتها التشغيلية العالية. إحدى مشكلات المنظومة التربوية التونسية أنها انبنت دوماً على تثمين الشهادات عوض الكفاءات المكتسبة. وبقي ذلك من أسباب بطالة متخرّجي الجامعات. فالإدارات الحكومية تشغل كوادرها على أساس الشهادات التي يحملونها فيما القطاع الخاص يعطي الأولوية لمعيار الكفاءة الفعلية، وهي كفاءة لا تعكسها بالضرورة الشهادات.
لم يغب الاهتمام بالتدريب المهني تماماً عن مؤسسات الدولة والقطاع الخاص. فبالإضافة للآلاف من مؤسسات التدريب المهني الخاصة المنتشرة في كل ربوع البلاد، هناك منظومة حكومية متكاملة تضم وكالة وطنية للتدريب المهني ومؤسسات مختصة في التدريب في مجالات مثل السياحة والفندقة والزراعة ومهارات الصيد البحري وأخرى تشرف على إدارتها وزارة الدفاع الوطني.
رغم هذا الاهتمام، لم تتغير النظرة السائدة إلى التدريب المهني كوسيلة لتأهيل العاطلين من العمل وانتشال المنقطعين عن الدراسة من أخطار الجنوح والإجرام.
لم يصبح التدريب المهني إلى حد الآن طريقاً يسلكه التلاميذ والطلبة الناجحون. ولم يتحول بعد إلى مكوّن أساسي من خطط تعليمية تعطي التدريب المهني الأهمية الإستراتيجية نفسها التي تعطيها إياه بلدان مثل سويسرا وألمانيا وكوريا.
ولم تتوصل البلاد إلى إقامة شراكة فعلية بين القطاع الخاص والدولة في إطار فهم متطور للتدريب المهني يواكب التكنولوجيات الحديثة ويجعله في جوهر المجهود الوطني لتطوير الصناعة وإنعاش نسق النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية.
بإدماجها في إطار الاقتصاد النظامي، بإمكان المهن اليدوية أن تقدم دفعاً قوياً للمبادرة الخاصة، بوصفها المحرك الرئيسي للاقتصاد وليس الوظائف المكتبية. بإمكانها أيضاً أن تشكل الجسر الذي تفتقده تونس بين منظومة التعليم، من جهة، ومتطلبات سوق الشغل واحتياجات المجتمع المتغيرة، من جهة أخرى.
رغم الآفاق التي تفتحها برامج التعاون التونسي الأوروبي على التدريب والتشغيل فهي لن تحل إلا جزءاً يسيراً من مشكلة البطالة في تونس.
تحتاج البلاد لخلق مواطن الشغل التي تحتاجها إلى إصلاحات واسعة لإخراج الاقتصاد التونسي من كساده بإزالة القيود التي تكبل قوى الإنتاج وتعيق الاستثمار في الأنشطة ذات القيمة المضافة، مثل اقتصاد المعرفة الذي يمكن أن يعتمد على خزان الكفاءات التونسية المتوافرة في كل المجالات العلمية والتكنولوجية عوض أن تهرب هذه الكفاءات إلى الخارج.
وقد تكون جلسة النقاش التي نظمها البرلمان التونسي الشهر الماضي مع عدد من أعضاء الحكومة حول تطوير التدريب المهني وآفاق التعليم التقني والتكنولوجي خطوة أولى في نطاق المراجعات التي تحتاجها منظومتا التعليم والتدريب المهني، إذا تبع هذا النقاش إنجازات ملموسة وتطور في تصورات المجتمع ونظرته إلى المهارات اليدوية كطريق للنجاح الفردي والنهضة الاقتصادية للبلاد.