خسرت إسرائيل كثيراً من قوة الردع في الشهور التي تبعت عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، هذا ما تجمع عليه النخبة السياسية في إسرائيل، وفي تعريفه البسيط، الردع، هو القدرة على زراعة مستويات كافية من الخوف في محيطها لمنع أي محاولة للمس بأمنها، وحين نذهب أعمق قليلاً ستكون زراعة اليأس في هذا المحيط، هذا لا يحدث الآن، لم يعد يعمل بالقدر الكافي.
"الاغتيال" كان دائماً إحدى الوسائل الرئيسية في استراتيجية الردع هذه، هو الحرب الدائرة بين الحروب والتي لم تتوقف منذ ما قبل إنشاء "الدولة"، جدول طويل ومزدحم من عمليات القتل منذ ثلاثينات القرن الماضي، مع بداية تشكيل المنظمات الصهيونية المسلحة في فلسطين مثل الهاغناه وشتيرن وأراغون (اتسل)..، وصولاً إلى اغتيال الكونت فولك برنادوت الدبلوماسي السويدي سليل العائلة المالكة السويدية وأول وسيط دولي في تاريخ الأمم المتحدة، الذي اغتالته عصابة شتيرن بزعامة إسحق شامير في 17 أيلول (سبتمبر) 1948، بالتنسيق مع منظمة الأراغون التي رأسها مناحيم بيغن - سيصبح كل منهما رئيساً لوزراء إسرائيل في ما بعد- وحتى اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في طهران في 31 تموز (يوليو) الماضي.
الاغتيال كسياسة سبق تأسيس "الدولة" من خلال ميليشيات عقائدية مسلحة، وتواصل بعد تأسيس الجيش، عبر دمج هذه الميليشيات بعد أنشاء "الدولة" التي منحته شرعية وطنية مطلقة، وتحول عبر أكثر من سبعة عقود إلى فلسفة دفاعية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وذراع طويلة كانت تصل إلى أهدافها قبل سلاح الجو ودوريات الأركان.
في إسرائيل ارتبطت سياسة الاغتيال بوجود "الدولة" نفسها عبر أسطرة الأجهزة القائمة عليها، مثل الموساد ودورية الأركان، وتحويل المنفذين إلى أبطال شعبيين وقادة وممثلين للشعب، بحيث يبدو مألوفاً ومتداولاً كحل مشروع ومفضل، ليس لدى المنظومة الأمنية فقط، بل يتجاوزها ليشمل شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ويتحول في أحيان كثيرة إلى مطلب شعبي، يقتضي الاحتفال، كما يحدث الآن حين يحتفل العديد من الإسرائيليين بقتل رئيس "حماس" والقائد في "حزب الله" فؤاد شكر، وكما يطالب إعلاميون على شاشات الفضائيات وشخصيات عامة وجمهور واسع ورؤساء بلديات ووزراء، مثل وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس أو وزير المالية سموتريتش باغتيال يحيى السنوار رئيس "حماس" الجديد.
اغتيال هنية كان هدفه استرداد جزء من "الردع"، وتوفير صورة نصر موقتة لنتنياهو، رغم ما يحمله من مغامرة توسيع دائرة الصراع، نوع من الركض نحو الحافة، التوقيت والمكان، يبدو مدروساً ومخططاً له بكثير من الدقة ومتشابكاً بقوة مع المخطط الشخصي لنتنياهو، مجازاً تقاطع مع "اليوم التالي" لوصول نتنياهو من الولايات المتحدة بعد استعراض حماسي في الكونغرس واجتماعات متلاحقة مع بايدن وهاريس وترامب، بحيث يبدو الأمر نوعاً من إحضار النور من واشنطن.
اغتيال إسماعيل هنية لن يؤثر في موقف حركة "حماس"، ولن يدفعها إلى تسليم الرهائن والسلاح، ولكنه سيترك صدمة في الشارع الفلسطيني، وسيصعد نتنياهو على السلّم أكثر من درجة ليلقي عظمة جديدة للجمهور الإسرائيلي المتعطش الذي لم يحصل على إنجاز حقيقي يرضيه ولو موقتاً منذ السابع من تشرين الأول.
ولكنه في جانب آخر فتح الطريق أمام حسم الصراع بين أجنحة حركة "حماس"، الحسم الذي كان يغطيه ويؤجله وجود هنية كنقطة توازن بين التيارين المركزيين في "الحركة"، صراع كان واضحاً منذ وصول يحيى السنوار من المعتقل الإسرائيلي، ما منح تيار الشباب والجناح العسكري دفعة قوية عبر توفر قائد قادر على توحيد شتاتهم وتحويلهم إلى قوة تمتد من قاعدة الحركة إلى هرمها القيادي، اتضح هذا الصراع في دورة انتخاب رئاسة القطاع عام 2017، وبلغ ذروته في دورة انتخاب رئيس الحركة في غزة في آذار (مارس) 2021، والتي شهدت تنافساً قوياً بين السنوار ومرشح آخر من التيار التقليدي الذي يمثله خالد مشعل والقيادة في قطر، قبل أن تحسم النتيجة بفارق ضئيل وبعد أكثر من جلسة انتخابية لمصلحة السنوار رئيساً للحركة لولاية ثانية مدتها أربع سنوات.
غزة هي الساحة الأهم بين الساحات الثلاث، إضافة إلى الضفة والشتات، ومنها استطاع التيار المتشدد الذي يقوده يحيى السنوار السيطرة على الحركة بدعم من الجناح العسكري والجيل الشاب، وتهميش التيار التقليدي الذي سيطر على الحركة منذ تأسيسها.
ليس ثمة رسائل كثيرة هنا، اغتيال هنية وعشرة أشهر من الحرب وإغلاق أفق الاتفاق عبر المفاوضات وضعف الحضور العربي، كانت روافع الوصول السهل للسيطرة على الحركة وتوحيد أجنحتها وتعزيز تحالفاتها في المنطقة.
الرسالة الوحيدة التي يمكن قراءتها هي أن القرار سيحدث في غزة وليس في قطر، وأن الذي يتحكم بالميدان والأكثر تشدداً هو المؤهل والقادر على إنجاز الاتفاق، وتحمل مسؤوليته والدفاع عنه أيضاً أمام التسونامي العاطفي الذي يحيط بغزة.