أعادت الحرب إنتاج كل سيئات عصر ما قبل الليبرالية الفكرية في الغرب. عصر سيادة الفاشيات المتناحرة، القويمة منها والاستعمارية. تحت ستار الخوف والتخويف، أًصبح المواطن الأوروبي مستعداً لقبول ممارسات مثل القمع الأمني والرقابة على الكتب والأفكار، على نحو فجّ. لا يعني ذلك أن الوضع كان قبل الحرب خالياً تماماً من كافة أنواع الرقابات، السياسية والثقافية، لكن الأمر كان يُمارس سراً وبأساليب غير مؤسسية. أما اليوم فأصبح مؤسسياً تمارسه أجهزة الدولة الصلبة، كالأجهزة الأمنية والقضاء، وتغطّيه وسائل الإعلام وتشرّع له في الوقت نفسه، أخلاقياً وسياسياً.
بدأت هذه الموجة السلطوية مع الغزو الروسي لأوكرانيا، كاشفةً عن هشاشة القيم الديموقراطية والتعددية في عالمٍ يسمّي نفسه "الحُرّ"، كانت أعتى دوله تغزو الدول ''المتخلّفة" قبل سنوات لـ"نشر الديموقراطية على ظهور الدبابات". ثم تجلّت بوجهٍ واضحٍ وقبيح بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وما أعقبه من إبادةٍ جماعية، وجدت لها كل التبريرات الفلسفية والسياسية والأخلاقية في غرب العالم.
والأشدُّ غرابةً أن هذه الممارسات الرقابية، التي لم يكن أحد يعتقد عودتها إلى أوروبا مثلاً، طالت مثقفين وكًتاباً غربيين، حاولوا أن يكونوا أوفياء لكل القيم التي تعلّموها خلال العقود الماضية من الحداثة الغربية الليبرالية. عندما تدخل موقع دار النشر الفرنسية الشهيرة "فيارد"، للسؤال عن كتاب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، تجد تحذيراً تحت الغلاف يقول: "هذا الكتاب لم يعد متوفراً للبيع"، لأنه ببساطة يحلّل قيام دولة إسرائيل في عام 1948 من زاوية معاكسة للسردية الغربية، وكيف قام هذا التأسيس الجديد على فكرة طرد السكان العرب، وفقاً لسياسة التطهير العرقي التي نظّمها قادة الحركة الصهيونية، مثبتاً بوثائق من الأرشيفين الإسرائيلي والبريطاني كيف تمّ تدمير أكثر من 400 قرية عربية، وإفراغ العديد من المدن من سكانها، وكيف أصبح 750 ألف فلسطيني لاجئين خارج بلادهم في دول الجوار.
تبدو هذه المعلومات بديهية وعادية بالنسبة إلى القارئ العربي، لكنها تشكّل فتحاً تاريخياً بالنسبة للقارئ الغربي الذي فتحت الحرب الجارية في غزة عينه على كثيرٍ من الحقائق المغيّبة عنه عمداً. لذلك، أصبحت آلية الرقابة أكثر وضوحاً وقمعاً. هذا النزوع الرقابي في فرنسا لم يتوقف عند الكتب، بل طال المؤتمرات التي لا يتماهى مضمونها ومتحدثوها مع التيار السائد، حيث تمّ إلغاء مؤتمر للباحثة الأميركية جوديث بتلر، بعنوان "ضدّ معاداة السامية واستغلالها ومن أجل السلام في فلسطين"، من قبل مجلس مدينة باريس، بسبب "مخاطر الاضطرابات الأمنية"، وإمكانية "الانزلاقات" في الخطب. الأمر الذي دفع أكثر من 1300 باحث وأكاديمي قبل أسابيع لإدانة "الترهيب والتشهير والقيود المفروضة على التعبير العلمي داخل الجامعات منذ 7 تشرين الأول" و"مناخ التهديد الذي يولّد الخوف والرقابة الذاتية، على حساب حرية التعبير".
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، دفعت الحرب في غزة والمناقشات التي رافقتها، المكتبة العامة في مونتريال إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ كتب إليز غرافيل، بسبب نقد الكاتبة إسرائيل في نصوصٍ ورسوماتٍ اعتبرتها المكتبة معادية للسامية. ورأينا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ممارساتٍ رقابية لا تقلّ غرابةً عمّا حدث في حرب غزة، حيث انتشرت موجة من الروسوفوبيا ضدّ كل ما هو روسي، حتى وإن كان لا ينتمي إلى حقبة نظام بوتين. فتمّ منع العديد من العروض الثقافية لفنانين ومثقفين روس، كما أعادت بعض الدول تقييم المناهج الدراسية، بإزالة أعمال المؤلفين الروس الكلاسيكيين مثل تولستوي أو دوستويفسكي منها، من دون أي وعي بالخط الفاصل بين إدانة النظام السياسي والرقابة على الثقافة.
لكن هذه الرقابة لا تمارسها أجهزة الدولة منفردةً، بل بالتحالف مع رأس المال، وهو ما يحلّله المؤرخ الفرنسي ديدييه مونسيو في ورقة نشرها مؤخّراً عن رقابة الكتب في سياق الحرب، بالإشارة إلى أن سحب كتاب إيلان بابي من منافذ البيع المباشر أو الإلكتروني يأتي في وقت استثنائي لسوق الكتاب والنشر في فرنسا، بسبب استحواذ رجل الأعمال المثير للجدل فِنسان بولوريه على مجموعة "هاشيت" في عام 2022 وإنشاء قوة نشر طاغية.
يدافع بولوريه عن الأفكار السياسية اليمينية الأصولية والخيارات المحافظة والرجعية. وعلى الرغم من نفيه، فإنه يؤكّد تدريجياً مشروعاً سياسياً حقيقياً يتضمن التقارب بين اليمين واليمين المتطرّف. ومع صعود سيطرة بولوريه، أصبح تنوع قطاع النشر مهدّداً، وبدأ عدد من دور النشر المستقلة بالفعل في إدانة هذا المسار الاحتكاري، الذي بصدد التشكلّ، فضلاً عن تركيز وسائل الإعلام في أيدي عدد قليل من المجموعات الاقتصادية الكبيرة، والذي كان بدوره عاملاً قوياً في هذه الممارسات، كونه يمثل شكلاً من أشكال الرقابة غير المباشرة، حيث يمكن استبعاد المؤلفين أو الفنانين من دوائر التوزيع إذا لم يكونوا متوافقين مع مصالح هذه المجموعات أو مع توجّهاتها السياسية والفكرية، مع ما قد تمارسه الشركات التي تموّل وسائل الإعلام أو الأحداث الثقافية من ضغوطٍ لتجنّب المحتوى المثير للجدل أو الانتقادي، وبالتالي التأثير على الإبداع الفني.
هذه العودة القوية للرقابة، والتي يُتوقع أن تستمر وقتاً طويلاً، أو أن تأخذ أشكالاً مؤسسيةً في شكل قوانين زجرية أو تشريعاتٍ معادية لحرّية التعبير والتفكير والنشر، ستزيد من مستوى الرقابة الذاتية التي دخلت كهفها قطاعات واسعة من مثقفي العالم الغربي، خوفاً من حملات التشويه الإعلامي والسياسي، وبالتالي ستعود بالوبال على الثقافة والفكر، ولا سيما في المجال الأكاديمي الذي لا ينتج فكراً خالصاً، بل هو جزء أساسي من ماكينة تشغيل الرأسمالية الغربية. وكذلك، ستجعل هذه العودة العالم الغربي أكثر عزلةً عن باقي العالم، وبالتالي ستكون وبالاً جيوسياسياً على الغرب في تطلعاته إلى استدامة هيمنته المديدة على العالم، كونه سيفقد آخر قيمه الليبرالية التي نجح من خلالها في هذه الهيمنة، وهي الحدّ الأدنى من حرّية القول والنشر والنقد.