في جنوب شرقي القارة الهندية، وقعت ثورة طلابية عارمة في بنغلاديش ذات النظام الجمهوري البرلماني، ما دفع رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد إلى مغادرة العاصمة دكا والفرار إلى جارتها الهند، الاثنين 5 آب (أغسطس) 2024. لكن المشهد الذي يتطلب التفكير بعمق أكثر ليس الثورة على السيدة التي جعلت بلادها واحدة من أسرع اقتصادات المنطقة نمواً، بل مشهد تحطيم الثوار تمثال الشيخ مجيب الرحمن والد الشيخة حسينة، الملقب بـ"أبو الأمة"، الذي جلب لبلاده الاستقلال عن جمهورية باكستان الإسلامية عام 1971. وأيضاً، مشهد آخر يحطم فيه الثوار تمثال فينوس المقام على نافورة حديقة سوشي لودج في وسط مدينة ميمينسينغ، الذي لطالما طالب نشطاء الأحزاب الدينية بإزالته. وهو ما يطرح تساؤلات بشأن المستفيدين من الأحداث التي وقعت في ذلك البلد الذي يقع في دائرة التنافس الهندي - الصيني والصراع الهندي - الباكستاني، بخاصة أن الصين وباكستان كانتا أول المرحبين بتشكيل حكومة موقتة في بنغلاديش يرأسها الدكتور محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام.
طلاب الجماعة الإسلامية؟
من تجربة الثورة الإيرانية عام 1979، وثورات الربيع العربي أواخر عام 2010، وجدنا أن الطلاب الذين شاركوا في تلك الثورات لم يكونوا بمنأى عن وجود دافع أيديولوجي لتحريكهم ضد السلطة الحاكمة، إذ تكوّن أفكارهم أحزاب سياسية أو تيارات فكرية ينتمون إليها، وتحركها أصابع وارتباطات خارجية.
ولذلك ما حدث في بنغلاديش يدفعنا إلى الإشارة إلى حزب الجماعة الإسلامية الذي حظرته حكومة بنغلاديش قبل مغادرة حسينة، هو وجناحه الطلابي "چتره شیبیر"، خلال الاحتجاجات الطلابية التي تحولت إلى أعمال عنف في تموز (يوليو) 2024. ويعد ذلك الحزب امتداداً للجماعة الإسلامية في باكستان، ومنافساً قوياً لحزب "رابطه عوامي" (حزب الشعب)، ويلعب دور المعارضة الدينية للحكومة التي يصفها بالعلمانية والموالية للغرب.
الأمر يذكرنا بتجربة "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر التي لطالما استطاعت أن توظف مشاعر الغضب لدى المواطن المصري من النظام العتيق، باسم الشريعة وحكم الدولة الإسلامية والحاجة لسلطة دينية تعارض الهيمنة الغربية.
وبالنسبة إلى بنغلاديش، فإن تلك الجماعة الإسلامية، على غرار "الإخوان المسلمين" في مصر ومناكفتهم للرئيس (الراحل) حسني مبارك، ترفض الفصل بين الجماعة الدينية والحزب السياسي، وتدعو إلى تطبيق الشريعة وتصور الإسلام على أنه مدرسة ديموقراطية وسلمية وبرلمانية، لكن تاريخها السياسي يحكي عكس ذلك.
وفي مفارقة عجيبة، وبينما الجيش هو الشريك الخفي والمعلن في حكم بنغلاديش، أصدر زعيم الجماعة الإسلامية شفيق الرحمن الذي يتمتع بشعبية كبيرة بين الشباب والطلاب وله وجه كاريزمي بياناً بعد هروب حسينة يغازل فيه قادة الجيش ويعلن تقديره للثوار الذين أطاحوا الحكومة العلمانية، ويطالب المنتمين إلى الجماعة الإسلامية بحماية الأماكن الدينية لأتباع الديانات الأخرى وممتلكاتهم!
أطراف خارجية
لا إنكار لكون إعادة إحياء نظام المحاصصة الذي يمنح أبناء المحاربين القدامى في حرب الاستقلال أولوية في الوظائف الحكومية، كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس!
لكن قبل أن تتداخل المصالح بين الجيش والشيخة حسينة التي شغلت منصب رئيسة الوزراء لمدة 20 عاماً، هناك أطراف خارجية كانت تستعد للحظة الثورة تلك، بخاصة أن الشيخة حسينة بدأت أخيراً اتخاذ خطوات للتوازن بين الصين والهند. فقد زارت العاصمة الصينية بكين مطلع تموز (يوليو) 2024، من أجل النقاش حول شراكة استراتيجية بين البلدين. وقبلها عملت على الاستفادة من الصين في تطوير قواتها المسلحة وبناء قاعدة بحرية في مياه خليج البنغال.
والحضور الصيني في ذلك الخليج من خلال الاستثمار في ميناء شيتاغونغ يدخل ضمن مشروعها (الحزام والطريق)، إذ يعزز حضورها على المحيط الهندي، وبلا شك يزعج الهند التي تجد أن الصين بسيطرتها على موانئ في سريلانكا وباكستان وبنغلاديش استطاعت أن تحاصر الهند من جهات ثلاث.
لكن بينما يمكن أن نتجاذب النقاشات حول مَن المستفيد من الاضطرابات في بنغلاديش، سيرى بعضهم أن الحكومة الهندية غاضبة من سياسة الشيخة حسينة التي جلبت الصين إلى حدودها. لذلك هي من خططت لإطاحتها.
لكن حقيقةً، فإن الهند لا تريد أي اضطرابات في جوارها، ولذلك كانت حريصة على التركيز على دعم حكومة دكا، ولم تكن تجد بديلاً لحزب حسينة ذات القبضة الحديدية، خشية لديها من وصول أحزاب إسلامية متشددة إلى حكم بنغلاديش، تدعم الجماعات والحركات الانفصالية في ولايات شمال شرقي الهند.
أما الصين فتدرك تماماً أن التحولات الجيوسياسية في منطقة جنوب آسيا تصب في مصلحتها، مثلما حدث في أفغانستان مع عودة حكومة "طالبان" بعد الانسحاب الأميركي، ومثلما هناك حكومة في باكستان تمزج بين الحكم العسكري والحكومة الدينية. ولذلك تناثرت تقارير حول دور الاستخبارات الباكستانية والصينية في تلك الاحتجاجات.
والمحصلة، إن انتفاضة الشعوب للتغيير حق مشروع، لكن وجهة التغيير بعد ذلك ليست بريئة، لأن هناك قوى خارجية تتجاذب تلك الوجهة، وكانت طوال الوقت تراقب ما يحدث في الداخل، بل تشارك في تشكيله حتى تأتي اللحظة الحاسمة، بخاصة أن الجماعة الإسلامية في بنغلاديش هي امتداد لنظيرتها الباكستانية التي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941.