يجد قطاع السياحة في تونس نفسه أمام خياري الحفاظ على ثوابته أو مراجعة توجهاته لمواكبة المتغيرات الحاصلة في محيطه.
أولاً، يواجه النمط الاقتصادي الذي تعتمد عليه السياحة التونسية تحديات عدة، رغم أن عدد السياح في ازدياد، ومن المتوقع أن يبلغ العشرة ملايين مع نهاية هذا العام.
تحسنت مداخيل القطاع من العملة الصعبة، والتي بلغت 2,2 مليار دولار سنة 2023، لكنها أقل بكثير مما تجنيه دول منافسة لتونس في حوض المتوسط.
الكثير من الفنادق ترزح تحت عبء الديون، وهي تحاول الضغط على نفقاتها بالاعتماد على التشغيل الموسمي للعمالة. وتعرض على وكالات السفر تعريفات مخفضة تشمل كل مصاريف الإقامة والأكل. ذلك يشجع السائح الأجنبي على البقاء كامل الوقت داخل أسوار الفنادق فتقل زياراته للمتاحف والمواقع الأثرية ولا تنتفع بإقامته المطاعم ومبيعات الصناعات التقليدية.
ثانيا، بعدما ساد هذا النمط مدة عقود، تغيرت تركيبة السياح الأجانب الذين يفدون على تونس، إذ لم تعد أغلبيتهم من الأوروبيين، بل أصبحت من مواطني الجارتين الجزائر وليبيا.
تقول أرقام 2023 إن من بين 9,3 ملايين سائح أجنبي زاروا تونس هناك حوالي ثلاثة ملايين جزائري و2,2 ليبي (ما يساوي 57 في المئة من إجمالي السياح). في المقابل، بلغ عدد الأوروبيين السنة الماضية 2,5 مليون (أي 27 في المئة من إجمالي السياح).
تتدفق سيارات السياح الجزائريين والليبيين نحو تونس على خلفية القرب الجغرافي ووثوق الوشائج بين شعوب البلدان الثلاثة وترابط المصالح في ما بينها. لكن حركة التنقل والسياحة تظل رهينة بقاء المعابر الحدودية البرية مفتوحة. فخلال بعض الفترات تعرضت المعابر أو بعضها للغلق. وتواصل خلال السنة الحالية تدفق السياح الجزائريين براً وتكثف ذلك هذا الصيف (بالإضافة إلى إعادة تشغيل خط سكة الحديد بين تونس وعنابة بعد انقطاع دام عشرين عاماً). ولكن حركة مرور السيارات عبر معبر رأس أجدير، أكبر معبر للمرور من ليبيا إلى تونس، شهدت اضطراباً متكرراً رغم إعلان مسؤولي البلدين مراراً نجاحهم في تذليل العوائق الأمنية والإدارية التي عطلت سفر الليبيين نحو تونس براً.
ورغم العوائق التي تطرأ من حين إلى آخر، فرضت السياحة الجزائرية والليبية في تونس نمطها الخاص. وهي تتميز في معظم الأحيان بطابعها العائلي وتفاعل السياح الليبيين والجزائريين بأريحية مع المجتمع التونسي وتفضيل الكثير منهم الإقامة في الشقق عوض الفنادق، وإن كان ذلك يخلق صعوبة للسلطات في تقدير قيمة ما ينفقه الجزائريون والليبيون خلال زياراتهم. ولكن من الأكيد أن إقامتهم تساهم في تنشيط الحركة التجارية وفي عمل المصحات الخاصة في تونس.
هناك حاجة في تونس للتفكير خارج الصندوق واستنباط طرق جديدة لزيادة جاذبية الوجهة التونسية بالنسبة إلى السياح الجزائريين والليبيين. ولكن التخطيط على المدى البعيد للسياحة الليبية رهان صعب في ظل الإشكاليات الأمنية داخل ليبيا واستمرار مشكلة دفع مستحقات المصحات التونسية.
كما تحتاج السياحة التونسية لتوفير حوافز ملموسة لتشجيع طائفة أخرى من السياح وهم التونسيون المقيمون في الخارج على قضاء إجازاتهم في وطنهم الأم.
تقول الأرقام إن هناك تقريبا 1,2 مليون تونسي من المقيمين في الخارج يزورون تونس كل عام (أي 13 في المئة من الوافدين على البلاد). وكثيراً ما يشتكي هؤلاء من ارتفاع أسعار النقل الجوي والفنادق وظروف الاستقبال. تشكياتهم تشبه تلك التي يعبر عنها سائر التونسيين في سفرهم عبر الخطوط التونسية أو خلال إقامتهم في الفنادق.
ورغم كل الوعود الرسمية بسنّ تحفيزات لفائدتهم، فإن التعريفات التي تفرض على المليونين ونصف مليون تونسي الذين يقيمون في الفنادق تبقى باهظة مقارنة بما يدفعه عادة السائح الأحنبي الذي تتولى حجوزاته وكالات السفر.
ثالثاً، بالإضافة إلى تغيّر تركيبة السياح، تطور مفهوم الإقامة وتنوعت خياراته لتنافس النزل والفنادق. وبرز تدريجياً قطاع جديد، وهو قطاع الإقامات السياحية البديلة المشيدة في المدن العتيقة كما في الأرياف والجبال وبقية المواقع الطبيعية الملائمة للسياحة الأيكولوجية.
تبلغ حصة الإقامات البديلة حالياً حوالي 9 في المئة من الإقامات السياحية، ولكنها تشكل قطاعاً واعداً يحتاج فقط إلى تسوية أوضاعه القانونية.
لا يزال أصحاب هذه الإقامات ينتظرون صوغ السلطات جملة من الضوابط الترتيبية لاعتمادها عوضاً عن شرط الترخيص المسبق وتعقيداته الإدارية.
سوف تساعد مراجعة ضوابط إنشاء الإقامات البديلة والتشجيع على الاستثمار في بعثها على تنويع الوجهات السياحية خارج المناطق الشاطئية، بما يشمل المواقع الطبيعية والمعالم التاريخية في المناطق الداخلية، وبخاصة غرب البلاد وجنوبها ويساهم في توازن التنمية بين الجهات.
كما أن نشر دور الإقامة البديلة سوف يشجع على السياحة الأجنبية الفردية ذات الإيرادات الأعلى من تلك المبنية على أساس الحجوزات الجماعية التي تضع السياح في فنادق معزولة عن العالم.
تحتاج تونس في نهاية التحليل إلى سياحة تواكب تطور مجتمعها وإمكانات محيطها الإقليمي المباشر. تحتاج إلى سياحة لا تعزل زوارها الأجانب عن بقية البلاد ضمن نموذج ضاقت أفقه ولا يبدو قادراً على التطور.
تحتاج إلى نظرة متكاملة للسياحة الداخلية والخارجية تتوافر فيها للجميع خدمات فندقية جيدة وبأسعار معقولة. كما تحتاج لبيئة نظيفة خارج مقار الإقامة ومرافق نقل واتصالات عصرية في كل نقطة من البلاد يشاء السائح زيارتها. وتونس على ذلك قادرة.