النهار

المهاجرون في بريطانيا "مكسر عصا"!
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
يتواصل الحديث عن المهاجرين كما لو كانوا "مشكلة المشاكل" التي يتعمد البعض تضخيم أبعادها. وربما لم يبقَ سياسي يطمح الى نيل المزيد من النفوذ منذ ٢٠١٠ إلا وطالب مراراً وتكراراً بمكافحة "الزوارق الصغيرة" التي تأتي عبر القنال الإنكليزية محملة بالمهاجرين غير الشرعيين.
المهاجرون في بريطانيا "مكسر عصا"!
تظاهرة داعمة للمهاجرين رداً على أخرى مناهضة لهم في بيرمنغهام. (أ ف ب)
A+   A-
"المهاجرون يجعلون مجتمعنا أفضل، وهم من يجعلنا أفضل كشعب (...) أشعر بالغثيان من أولئك الذين يتخذون من أقلية في المجتمع ذريعة لكل المشكلات". هذا ما قالته شابة من بلدة بارنسلي في شمال إنكلترا، فيما كان ناشطون ومؤثرون و"سياسيون" يواصلون بث سموم الكراهية ضد المسلمين والمهاجرين. وكانت حشود المتطرفين تعيث خراباً بالمنطقة لأيام عدة احتجاجاً، كما تزعم، على إغراق البلاد بالغرباء والمسلمين خصوصاً.
 
لطالما شهدت بريطانيا أحداثاً من هذا النوع. وكانت هناك أعمال شغب ومسيرات "بيضاء" في 1919 و1948 ثم 1958، شملت عدداً من المدن التي سار المتطرفون في شوارعها في الأسبوعين الأخيرين علاوة على أخرى مثل غلاسكو. وكان القاسم المشترك بينها هو التذمر من الملونين والسود الوافدين إلى مدن بريطانيا وبلداتها. 
 
وهذا غريب في أحد جوانبه، لأن علاقة بريطانيا تاريخياً بالعالم الخارجي كانت دوماً وثيقة، إذ احتلت دولاً ورسمت خرائط دول، كما استقر أبناؤها في دول بعيدة نهائياً. وهناك حالياً 200 مليون شخص لهم أصول بريطانية في أنحاء العالم، أي ثلاثة أضعاف المواطنين المقيمين (67 مليون نسمة)! ويقدر عدد المغتربين البريطانيين بنحو 12 مليوناً، يعيش بعضهم في دول غير ناطقة بالإنكليزية كالإمارات العربية المتحدة التي تُعد واحدة من حفنة دول اتخذها أكثر من 100 ألف بريطاني موطناً له.
 
إلا أن هذا كله لم يجعل المهاجرين موضع ترحيب في المملكة المتحدة. ومع وصول المحافظين إلى الحكم في 2010، بدأت مرحلة جديدة كانت فيها الدولة أقل إنصافاً للمهاجرين وأكثر مبالغة في توصيف "إساءاتهم". 
 
ويعود السبب في جزء منه إلى شعبويين مثل النائب نايجل فاراج، حذروا من احتمال تطبيق "نظرية الاستبدال" السيئة الصيت، ونشروا شائعات يزعم بعضها أن المهاجرين يحرمون أبناء البلاد من فرص العمل وينافسونهم على المسكن والرعاية الطبية والتعليم... الخ. وبلغت بعض نظريات المؤامرة حداً من التخيل المفرط يجعلها غير جديرة حتى بالمناقشة كادعاء المتطرف تومي روبنسون أن كل مسلم هو عبارة عن "إرهابي" ينتظر الفرصة السانحة لقتل بريطانيين.  
 
وشكل هؤلاء ضغوطاً على المحافظين شجعتهم على وضع سياسات مناهضة للمهاجرين، كقانون منح الإقامة لأجنبي / أجنبية متزوج من بريطانية / بريطاني، بشروطه شبه المستحيلة. وسنّت القانون تيريزا ماي حين كانت وزيرة للداخلية في 2012 إلى جانب قانون آخر معني بخلق "بيئة معادية" من شأنها أن تمنع الهواء عن المهاجر غير الشرعي. وفي السنوات الأخيرة تم التضييق على الطلاب الأجانب ومنع طلاب الدراسات العليا من إحضار عائلاتهم.
 
في غضون ذلك، يتواصل الحديث عن المهاجرين كما لو كانوا "مشكلة المشاكل" التي يتعمد البعض تضخيم أبعادها. وربما لم يبقَ سياسي يطمح إلى نيل المزيد من النفوذ منذ 2010 إلا وطالب مراراً وتكراراً بمكافحة "الزوارق الصغيرة" التي تأتي عبر القنال الإنكليزية محملة بالمهاجرين غير الشرعيين. لكن هذا الضجيج الذي يصمّ الآذان لا يتناسب مع حجم المعاناة "المفترضة"، كما أن "المشكلة" محدودة مقارنة بما تواجهه دول قريبة أقل صخباً بشأنها.
 
وبحسب "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) كان نصيب المملكة المتحدة من الآتين على متن هذه الزوارق خلال هذا العام حتى 18 تموز (يوليو) 14759 مهاجراً، وهو أقل بكثير مما استقبلته كل من إيطاليا (38529) وإسبانيا (26863) واليونان (17723). 
مع ذلك لم يتوقف رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك عن الشكوى منها وأدرج إيقافها ضمن "التعهدات الخمسة" التي أطلقها في بداية ولايته. وبُحت حناجر اليمينيين المتطرفين أخيراً وهم يزعقون بشعاره الشهير "أوقفوا الزوارق". والحق أن سوناك ووزيرتي الداخلية السابقتين بريتي باتيل وسويلا برافرمان، على سبيل المثال، قد انتقموا من أصولهم حينما بالغوا في تهويل "خطر" اللاجئين مع أنهم  ترعرعوا في كنف مهاجرين!  
 
 وتبدو معاداة المهاجرين المفرطة بمثابة "التقليد" في حزب المحافظين. ديفيد كاميرون رئيس الوزراء السابق استعمل كلمة "سرب [حشرات]" لتوصيفهم، وحاربهم البريكستيون، من أمثال بوريس جونسون ومايكل غوف، حرباً لا هوادة فيها.
 
ولا تتردد صحف شعبية وبعض منصات وسائل التواصل الاجتماعي، في نشر الكثير من الترهات التي ترمي إلى تعميق الشرخ بين المهاجرين وأبناء البلاد. مثلاً، روجت "الديلي تلغراف" و"التايمز" في عشرات التقارير، لخطة مزعومة وضعها مسلمون أصوليون للهيمنة على مدارس البلاد وسميت بـ"حصان طروادة"، ثبت في ما بعد أن لا أساس لها من الصحة وهدفها الوحيد هو الإساءة للمسلمين. ومثلاً نشرت "الصن" تقريراً بعنوان "تعاطف 1 من كل 5 مسلمين بريطانيين مع الجهاديين". ومن ناحيتها، كانت "الديلي ميل" دائماً متحمسة لتأليب البريطانيين على المهاجرين في قصة عنونتها "مهاجرون يثيرون أزمة إسكان"، وكثير غيرها.
 
فات الشعبويين وصحفهم ووسائل التواصل الاجتماعي التي يستعملونها بكثرة، أن يتذكروا مساهمات المهاجرين، الذين "لا يسرقون" وظائف البريطانيين، بل يساعدونهم على أدائها ويسدون العجز في هذه الصناعة أو تلك. ومعروف أن هيئة "خدمة الصحة الوطنية" ستنهار لو حرمت من نحو 20 في المئة من الأجانب العاملين فيها من ممرضين وفنيين. ويعتقد أن نسبة الأطباء الذين جاؤوا من نيجيريا والسودان والهند ومصر وغيرها هي أكثر من الخمس. ولم يفطن أحد من هؤلاء الناقمين إلى فضل الأجانب لاعبين وممولين ومدربين ومديرين على كرة القدم البريطانية. وقد أكد "مكتب الإحصاءات الوطني" هذا العام أن "مساهمة المهاجرين في الناتج الاقتصادي للمملكة المتحدة سنويا هي 83 مليار جنيه إسترليني (نحو 1.6 مليار دولار) تقريباً".
 
لكن كان المهاجرون دائماً مادة يسهل استغلالها من قبل سياسيين وإعلاميين لأغراضهم الخاصة، فيما صدّق المواطنون العاديون المبالغات التي يسمعونها ليل نهار عن أن المهاجرين والمسلمين هم سبب متاعبهم كلها.  
 

اقرأ في النهار Premium