عادت الحرب الأوكرانية إلى الواجهة، بعدما حققت القوات الأوكرانية اختراقاً في عمق الأراضي الروسية في منطقة كورسك. استولت أوكرانيا على مساحات كبيرة من الأراضي الروسية، في ما يمكن اعتباره رداً على استيلاء روسيا على أراضٍ أوكرانية. بات هناك نوع من التوازن العسكري بين الجانبين، في وقت لم تتخلّ فيه روسيا عن عنجهيتها، من منطلق أن أوكرانيا لا يمكن أن تخرج من دائرة نفوذها.
أكثر من ذلك، يعتبر النظام الذي أقامه فلاديمير بوتين منذ عام 2000، أن روسيا لا يمكن أن تستعيد أمجاد الاتحاد السوفياتي، وهو حلم بعيد المنال، من دون السيطرة على أوكرانيا.
ما زال بوتين يرفض الاعتراف بأنه خسر حرب أوكرانيا بعد أسبوع فقط من بدئها في 24 شباط (فبراير) 2022، عندما فشلت القوات الروسية في الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف. لا يستطيع قبول هذا الواقع الذي فرض نفسه والذي يعني - بين ما يعنيه - أن روسيا دولة عاجزة عن الانتصار على أوكرانيا ومنعها من الانضمام في يوم من الأيام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو).
يعيش الرئيس الروسي في عالم خاص به. جعله ذلك يحوّل بلده إلى بلد معزول عن محيطه الأوروبي، في حين كان قادراً على جعل روسيا جزءاً من هذا المحيط، بدلاً من أن تكون تحت رحمة الصين والسلاح الكوري الشمالي والإيراني، كما هي عليه الحال الآن.
يعود ذلك، قبل كل شيء، إلى أن بوتين لم يستطع منذ البداية فهم معنى أوكرانيا بالنسبة إلى أوروبا كلها، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة أيضاً. لم يفهم أن أمن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من أمن كل دولة أوروبية، وأن تهديدها يشير إلى تهديد لأوروبا.
يتحدث الآن ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس المجلس الأمني الروسي، عن "أن الدبابات الروسية ستدخل إلى برلين" كما سبق أن دخلتها في نهاية الحرب العالمية الثانية. يدل ذلك على أن ميدفيديف لا يعرف ما هي ألمانيا، ولا الأبعاد المترتبة على مثل هذا النوع من الكلام الفارغ. يبدو واضحاً أن كبار المسؤولين الروس، من بينهم ميدفيديف الذي شغل موقع رئاسة الجمهورية بين عامي 2008 و2012، ثم رئاسة الوزراء بين عامي 2012 و2020، فقدوا أعصابهم. لا يستوعب هذا المسؤول الكبير أن أوروبا كلها، بما فيها ألمانيا، لا تستطيع الوقوف مكتوفة أمام ما فعلته روسيا في أوكرانيا. ليس سراً أن ألمانيا زودت أوكرانيا دبابات وأن هذه الدبابات فعّالة جداً، وأن لا مقارنة بين السلاحين الغربي والروسي. كما بدأت أوكرانيا في الحصول على طائرات "ف – 16" أميركية، ويُحتمل أن تشارك هذه الطائرات التي جاءت من دول أوروبية عدة في المعارك الدائرة مع الجيش الروسي قريباً.
يظهر من ردات الفعل الروسية أن بوتين لا يستطيع التراجع، ولا البحث عن مخرج من أوكرانيا. يعتبر الموقف الذي اعتمده الرئيس الروسي مستغرباً، لكنه قابل للفهم إذا أخذنا في الاعتبار أن عقله لا يزال أسير عقدة الاتحاد السوفياتي، هذه العقدة التي جعلته عاجزاً عن استيعاب أن السلاح الروسي متخلّف، وأن أوكرانيا ستكون قادرة على صدّ الهجوم الذي استهدف كييف ابتداء من 24 شباط (فبراير) 2022.
كان كافياً تحديد واشنطن يوم الهجوم الروسي على أوكرانيا، قبل أن يبدأ هذا الهجوم، كي تعي روسيا أن أوراقها باتت مكشوفة، وأن لا أمل لها بالانتصار في حرب تحولت مع الوقت إلى حرب استنزاف في بلد يتراجع عدد سكانه سنوياً.
عاجلاً أم آجلاً، سيترتب على بوتين التراجع والاعتراف بأن الاتحاد السوفياتي جزء من الماضي، وأن أمجاده لم تكن يوماً أمجاداً بمقدار ما كانت محاولة لفرض نظام متخلّف على شعوب تريد الحرّية. لا دليل على ذلك أكثر من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) التي خرجت من دائرة نفوذ الاتحاد السوفياتي مع انهيار جدار برلين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989.
لن يستطيع فلاديمير بوتين إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، وأمامه فرصة لالتقاط أنفاسه والاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه عندما قرّر غزو أوكرانيا، وفرض أمر واقع على الأرض الأوكرانية، وعلى أوروبا. كل ما يستطيع عمله هو الاستماع جيداً إلى كل كلمة تصدر هذه الأيام عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي قال حديثاً: "كلما زادت الضغوط على روسيا التي أتت بالحرب إلى أوكرانيا، صار السلام قريباً".
في النهاية، العودة عن الخطأ فضيلة. كل ما في الأمر أن بوتين خاض حرباً لم يكن يمتلك الوسائل التي تسمح له بخوضها. الشعب الروسي نفسه لم يعد يريد هذه الحرب، ولا وجود لمتطوعين روس يريدون استعادة نفوذ روسيا في أوكرانيا. هناك رفض شعبي روسي للحرب التي لم تكشف تخلّف الآلة العسكرية الروسية فحسب، بل كشفت أيضاً مدى جهل فلاديمير بوتين بما يدور في العالم، خصوصاً في القارة الأوروبية وفي الولايات المتحدة.