يحتدم الفضاء العام العراقي بنزاع جديد، هذه المرة حول قانون الأحوال الشخصية رقم 188 في سياق رغبة الإطار التنسيقي بتعديل هذا القانون، المُشَرّع في عام 1959، كما صرح في بيان له بهذا الصدد. يحاجج المطالبون بتعديل هذا القانون الذي يُعد على نحو واسع من الأفضل في دول المنطقة واجتاز اختبار السنين والتجارب بنجاح، بأنه مخالف لحرية التعبير، ويستشهدون بالمادة 41 من الدستور العراقي. تنص هذه المادة على أن العراقيين "أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم ومذاهبهم أو معتقداتهم واختياراتهم ويُنظم ذلك بقانون".
تنطوي هذه المحاججة القانونية على مشاكل كثيرة. أولها أن المادة 41 من الدستور هي أصلاً مادة خلافية وكانت واحدة من عدة مواد دستورية كان يُنظر في تعديلها عبر لجنة التعديلات الدستورية التى نص الدستور على تشكيلها للنظر في المواد الخلافية فيه، بغية تعديلها وذلك تلافياً للأخطاء الناتجة عن كتابة الدستور بشكل سريع في عام 2005 وإرضاءً للسنّة الذين لم يشاركوا عملياً في كتابة مسودته. جاء النص على تشكيل هذه اللجنة ضمن صفقة توافقية سنية – شيعية - كردية تم التوصل اليها في صيف 2005 لمنع رفض سنّي واسع لمسودة الدستور ما يحول دون إمراره، خصوصاً في ظل الاشتراط الدستوري حينها أن تصويت ثلاث محافظات ضد الدستور يكفي لإسقاطه. وبالفعل تشكلت هذه اللجنة في خريف 2006 واستمرت الى 2009، لكن لم يتمخض عن عملها أي شيء ملموس بسبب شدة الخلافات السياسية، خصوصاً على المادة 140 المتعلقة بعائدية كركوك.
كيف يمكن استخدام مادة دستورية خلافية لتشريع قانون دائم له تأثير واسع وعميق على حياة كل العراقيين، فيما تتُرك مواد دستورية مهمة، وغير خلافية، وضرورية للمصلحة العامة دون تشريع قوانين نصت عليها هذه المواد كما في قوانين المحكمة الاتحادية والنفط والغاز ومجلس الاتحاد؟ يسبب عدم تشريع هذه القوانين مشاكل حقيقية بنتائج سلبية معروفة ومتفق عليها، لكنّ الإطار التنسيقي وحلفاءه في البرلمان وخارجه لا يولون كل ذلك الأهمية اللازمة ويذهبون لسنّ قانون خلافي جداً على أساس مادة دستورية هي نفسها خلافية، لتقويض قانون ناجح يؤدي الغرض المطلوب منه على نحو جيد بحيث بقي هذا القانون، باستثناء تعديلات بسيطة فيه، على مدى عدة أنظمة سياسية حكمت البلاد، بينها الأكثر شعبية، نظام مُشرِّعه، عبد الكريم قاسم، مروراً بأنظمة تالية قادها خصوم قاسم. على امتداد العقود الستة من عمر هذا القانون لم تظهر مطالبات شعبية أو سياسية تدعو إلى تغييره أو إلغائه، خصوصاً من النساء، الفئة الأكبر عدداً في المجتمع والأكثر تأثراً به!
تكمن المشكلة الثانية في هذه المادة الخلافية، 41، في أنها تناقض مادة دستورية أصيلة وغير خلافية وهي المادة 14 المتعلقة بحظر التمييز بين العراقيين. تنص هذه المادة على أن العراقيين "متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي". في ظل تشريع قانون جديد، يُقدم بوصفه بديلاً محتملاً عن القانون الحالي، كيف يمكن لامرأتين عراقيتين أن تتلقيا حكمين قانونيين مختلفين تماماً في القضية نفسها بسبب انتمائهما المذهبي المختلف؟ حسب أحكام المذهب الشيعي، لا يمكن توريث المرأة عقارات أو أبنية، وإنما تُعطى مقابلاً مالياً لها، فيما بمقدور العراقية السنّية أن ترث عقارات. الأمر ذاته يتعلق بالحضانة والطلاق وأمور أخرى كثيرة.
يتعقد الموضوع أكثر ويزداد الارتياب بالنيات الإطارية عندما نعرف أنه ليست هناك نسخة موحدة لهذا القانون البديل كي يناقشه نواب البرلمان ويطلع عليه الرأي العام، قبل الذهاب الى التصويت عليه رفضاً أو قبولاً. ينص المقترح المقدم للبرلمان على أن يقوم الوقفان السنّي والشيعي، كلاً على حدة، بإنتاج مدونة فقهية تحتوي الأحكام الفقهية المتعلقة بالأحوال الشخصية، بعد ستة أشهر من التصويت على القانون! يعني هذا أن القانون يصبح نافذاً ورسمياً حتى من دون معرفة محتواه الذي سيُنتج تالياً! تنص الرسالة الفقهية للسيد علي السيستاني، المرجع الذي يقلده أغلبية الشيعة العراقيين، بشكل صريح وواضح على جواز تزويج بنت التاسعة (وهو الحكم ذاته الذي يتكرر في الأغلبية الساحقة من الآراء الفقهية الشيعية والسنية على السواء). هل ستتضمن المدونة الشيعية مثلاً التي سينتجها الوقف الشيعي هذا الحكم أم لا؟ وماذا بشأن حق الرجل في أن يتزوج بثانية أو ثالثة، من دون موافقة القاضي على أساس وجود حاجة مُعتبرة يقدرها القاضي والقدرة على الإنفاق، ورضى الزوجة الأولى (وهي الاشتراطات المتضمنة في القانون الحالي)، وهو الرأي الفقهي للسيستاني أيضاً. هل ستتضمن المدونة هذا الحكم؟ الأمر ذاته ينطبق على منح حضانة الطفل، عند الطلاق، للأب بحسب فتاوى السيستاني، وليس للأم كما هو معمول به حالياً في القانون الحالي، هل ستتضمن المدونة هذا الحكم؟ وزواج المتعة، أو الزواج المؤقت، الذي يوافق على صحته كل الفقهاء الشيعة، بضمنهم السيستاني، هل سيُضَمَّن في المدونة؟ كل هذه الأسئلة المشروعة تبقى دون أجوبة، فالذي قدم مسودة التعديل للقانون وداعموه الإطاريون وغيرهم لا يقدمون أجوبة واضحة على هذه الأسئلة المشروعة والمهمة، وإنما يُكتفى بأجوبة عمومية ومطاطة، طابعها التحاشي والتأجيل والنفي وليس التفصيل والتوضيح.
إحدى الحجج المضللة التي تُقدم للدفاع عن تعديل القانون الحالي هي أنه يقوم أساساً على حرية التعبير، أي حرية العراقيين في ممارسة معتقداتهم الدينية بحسب مذاهبهم. هذا الكلام مغلوط تماماً، فحرية التعبير فردية دائماً، تتعلق بذات الفرد، بحريته في أن يكون ما يريد ما دام هذا لا يقود الى إيذاء الآخرين أو الضرر بهم (حينها تنتهي حرية الفرد وتتحول الى تعدٍ يصل حد الجريمة). في ظل التعديل الجديد، إذا قَرّرَ أبٌ عراقي سيّئ ومفلس وقاسٍ أن يزوج ابنته التي بعمر 11 سنة لشخص غني عمره 60، لأن هذا الأخير أعطاه مبلغاً كبيراً من المال مقابل موافقته على تزويجه ابنته الصغيرة، والفقهان السنّي والشيعي يسمحان بذلك، هل يمارس هذا الأب حرية التعبير هنا؟ أم أنه يوقع الضرر بابنته القاصر التي لا تستطيع منع هذا الضرر؟ من يحمي حقوق هذه البنت الصغيرة، عندما قرر الأب الفاقد الحسّ بالمسؤولية أن يضحي بها من أجل مصالحه الشخصية؟ أليست مهمة الدولة حماية هذه البنت، المواطنة العراقية، من التعسف والجور؟ أمور كهذه ستصبح قانونية، في ظل أي مدونة فقهية سنّية أو شيعية لأن هذه من الأحكام المعروفة للمذاهب الإسلامية. ما الذي سيكون عليه مصير الفتيات الصغيرات في المناطق الريفية مثلاً، حين يتولى مأذون شرعي مُخول عقد الزواج والطلاق مقابل أجور، خارج المحكمة وبدون إجراءاتها التدقيقية، لأن القانون المقترح يسمح بهذا على أساس سماح الفقهين السني والشيعي به؟ لا أحد من المذاهب الإسلامية يشترط الزواج والطلاق داخل المحاكم، فقط مؤسسات الدولة الحديثة هي التي تشترط ذلك لأن هذا الاشتراط يُحافظ على المصلحة العامة من خلال منع الظلم ويضمن المعاملة المتساوية للعراقيين، النساء خصوصاً.
في البلدان المحترمة والرصينة يولد الناس كمواطنين متساوين في ظل دول ترعى حقوقهم وتدافع عنها بغض النظر عن معتقداتهم الدينية التي تبقى شأناً خاصاً بهم. لكن في العراق، عراق الإطار التنسيقي وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، يُراد للعراقيين ان يُولدوا سنّة وشيعة ومسيحيين وازيديين الخ... وأن يُعاملوا دائماً تمييزياً على هذا الأساس، من المحاصصة الى الأحوال الشخصية: أبناء طوائف متنافسة وليس مواطني بلد متساوين! ولا يزال تفكيك هذا البلد مستمراً باسم "حرية" الطوائف...