في ظرفية خاصة تميّزت بالموقف التاريخي الذي عبّرت عنه فرنسا باعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، واعتبارها مقترح الحكم الذاتي الذي تقدّم به المغرب منذ عام 2007 الأساس الوحيد حاضراً ومستقبلاً لإيجاد تسوية سياسية نهائية للنزاع المفتعل منذ عام 1975، خلّد الشعب المغربي الأربعاء الذكرى 45 لاسترجاع إقليم وادي الذهب إلى حضن الوطن الكبير، إذ كانت بيعة قبائل وادي الذهب للملك الراحل الحسن الثاني عبارة عن استفتاء تأكيدي لمغربية الصحراء، ولصلابة الانتماء الوطني لقبائل المنطقة.
تستحق قصة عودة وادي الذهب أن تُروى، لأنها تلهم وتساعد بشكل كبير على فهم الطبيعة المصطنعة للنزاع في الصحراء المغربية، بخاصة بالنسبة إلى القارئ البعيد من تطورات الأحداث في منطقة المغرب الكبير. كما إنها قصة تُسقط الاتهامات التي تُوجّه إلى المغرب كونه بلداً توسعياً يحن إلى ماضيه الإمبراطوري، ذلك أن التاريخ أثبت في عامي 1972 و1975 أن المغرب - على العكس من ذلك - كان يعتبر أن شواهد التاريخ وما يمكن أن يمثل سبباً للصراع مع جيرانه، يمكن أن يتحول إلى عامل وحدة وعمل مشترك، لذلك تنازل المغرب عن حقه المشروع في الصحراء الشرقية التي اقتطعتها فرنسا لنفسها عندما كانت تحتل الجزائر، من خلال اتفاقية تلمسان، وبعدها قبل تقسيم الصحراء مع موريتانيا في الاتفاقية الثلاثية التي جمعته مع كل من إسبانيا وموريتانيا في عام 1975. غير أن المغرب كان واضحاً في أنه لن يقبل، في أي ظرف، بقيام كيان يفصل بين المغرب وموريتانيا اللتين أكّد حكم محكمة العدل الدولية صلتهما بسكان المنطقة. لكن التحدّيات التي واجهها مفهوم الدولة في المنطقة ويواجهها إلى اليوم، أفرز لنا واقع عدم قدرة موريتانيا حديثة النشأة كدولة، على ممارسة السيادة على الإقليم الذي ظل الجانب العسكري والأمني فيه مرتبطاً بالمغرب، قبل التقسيم وبعده.
في مدريد في عام 1975، اتفق المغرب وموريتانيا وإسبانيا على انسحاب المستعمر الإسباني، واقتسام الصحراء من خلال تخصيص الساقية الحمراء للمغرب وترست الغربية وادي الذهب لموريتانيا، وذلك لوضع حدّ نهائي لأي نزاع مستقبلي في المنطقة. وضعت الاتفاقية في الأمم المتحدة، فحاز المغرب الساقية الحمراء، ودخلت وادي الذهب ضمن السيادة الموريتانية، وهذا أمر امتد إلى عام 1979. قبل تلك السنة، تعرّضت موريتانيا في 10 تموز (يوليو) 1978 لانقلاب عسكري هو الأول في تاريخها، قاده المصطفى ولد محمد السالك على نظام المختار ولد داده الذي لم يقوَ على مواجهة التحدّيات العسكرية والأمنية التي فرضتها عليه هجمات جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر والقذافي، إذ كان مقاتلوها يبلغون العاصمة نواكشوط ويهدّدون أمنها.
بعد الانقلاب مباشرة، بدأت الاتصالات السرّية بجبهة البوليساريو عبر قنوات جزائرية، تُوّجت باتفاقية الجزائر التي تخلّت بموجبها موريتانيا، مرغمة، عن وادي الذهب لفائدة جبهة البوليساريو في آب (أغسطس) 1979. هذا الأمر شكّل عملاً عدائياً وتحريضياً على المغرب الجار الشمالي، بل إن جزءاً من النخبة الموريتانية آنذاك كان يسعى إلى وضع كيان عازل بين موريتانيا والمغرب. لهذا، ظل بعض السياسيين في الجارة الجنوبية يقولون إن لا حدود لموريتانيا مع المغرب.
تصرّف الملك الراحل الحسن الثاني بسرعة كبيرة، قبل أن يُدرك الجزائريون تحقيق الاتفاق على الأرض. فقد استجاب لبيعة شيوخ القبائل الذين كانوا جزءاً رئيسياً من الجماعة الصحراوية المؤيّدة لمغربية الصحراء شمالها وجنوبها، بنشر القوات المسلحة الملكية في وادي الذهب وسط احتضان شعبي كبير. فشيوخ القبائل لم تتمّ استشارتهم بخصوص اتفاقية مدريد، وهنا لا بدّ من التذكير بما كشفته وثائق سرّية إسبانية تعود إلى الأيام الأخيرة في حياة الجنرال فرانكو، الذي طلب في اجتماع رسمي من ممثلي الجماعة الصحراوية، التي كانت تضمّ شيوخ قبائل الساقية الحمراء ووادي الذهب، وتُعتبر بمثابة برلمان الصحراء، مساعدة القوات المسلحة الإسبانية في حال قرّرت المواجهة العسكرية مع الجيش المغربي. فكان جوابهم على لسان الراحل خطري ولد سعيد الجماني: "لا تنتظر مساعدتنا أيها الجنرال، فنحن لا نحارب إخوتنا المغاربة".
تأكيداً للحقيقة التاريخية، قبلت موريتانيا كدولة بالوضع الجديد، معلنة بشكل واضح أن ليست لديها أية مطالب في الصحراء. لذلك يُعتبر حدث استرجاع إقليم وادي الذهب إلى حظيرة الوطن الواحد انتصاراً للمشروعية، وفشلاً ذريعاً لمشروع الانفصال الذي لو نجح في تنفيذ اتفاقية الجزائر على أرض الواقع لكانت المنطقة في وضعية أخرى، تهدّد كيانات كل الدول في المنطقة. كذلك، تُعتبر حالة وادي الذهب نموذجاً صارخاً لهامشية مشروع الانفصال المرتبط بأجندات خارجية بالنسبة إلى النخب الصحراوية، سواء في وادي الذهب أو الساقية الحمراء، وقد أثبت ذلك ممثلو الجماعة الصحراوية عندما رفضوا أي تعاون مع نظام فرانكو ضدّ المغرب، أو مساعدته في محاربة تنفيذ توحيد الأراضي المغربية التي حُرّرت بصفة نهائية منذ 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1976، التاريخ الذي أشرف فيه الجنرال غوميز سالازار، الحاكم الإسباني للصحراء المغربية (عندما كانت تحت الاحتلال الإسباني) على إنزال العلم الإسباني ورفع العلم المغربي بحضور عامل إقليم الصحراء الراحل أحمد بنسودة، معلناً بذلك نهاية عهد الاستعمار الإسباني للساقية الحمراء ووادي الذهب الذي امتد منذ عام 1884. شكّل ذلك تتويجاً لمسار طويل من النضال، خاضه المغرب منذ حصوله على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة في عام 1956، إذ طرح المغرب موضوع تحرير الصحراء أمام لجنة الوصاية، وشكّل هذا المطلب نقطة دائمة تكرّرت كل سنة إلى حدود كانون الأول (ديسمبر) 1960، تاريخ إحداث لجنة تصفية الاستعمار. وقد تفاعل المنتظم الدولي إيجابياً مع المطلب المغربي، بل صدرت قرارات أممية في عامي 1964 و1965 تندّد بالاستعمار الإسباني وتطالب مدريد بتصفية الاستعمار في الصحراء وسيدي إفني حاضرة قبائل أيت بعمران، التي تمّ تحريرها من الاستعمار الإسباني في عام 1969، وبالدخول في مفاوضات مع المغرب بشأن القضايا التي تطرحها مسائل السيادة.
ما يتحقّق اليوم في إقليم وادي الذهب من مشاريع تنموية عملاقة، يؤكّد أن المنطقة مستمرة فعلاً في جرف مشروع الانفصال.