لم يَكد حزب العمال البريطاني يعود إلى الحكم ويحاول البدء في معالجة المشكلات التي خلفها له المحافظون، حتى أخذ البريكست، ولعله الأكثر تعقيداً في تركتهم الثقيلة، يقرع بابه بقوة. في 16 تموز (يوليو)، وفيما كانت عيون العالم مسلطة على أعضاء الفريق الوطني الاسباني لكرة القدم وهو يحتفل بفوزه بكأس الأمم الأوروبية "يورو 2024"، تعالت هتافات بعض أعضائه "جبل طارق اسباني"، فيما ردّ عليهم الجمهور " والمغرب [إسباني أيضاً]"، بحسب ما ذكرت تقارير صحافية. وبعد ذلك بأيام، ساد التوتر على جبهة الإعلام المحلي.
هكذا لم يكتفِ القوميون والمتطرفون الإسبان الذين ينشط قسم كبير منهم حالياً في صفوف حزب "فوكس"، بمدينتي سبتة ومليلة المغربيتين المحتلتين، بل يريدون ضمّ المملكة المغربية كلها! وإذا كان الاستخفاف بحق الجوار يحمل العنصريين الإسبان على التمادي لهذا الحد في الجشع مع دولة حصينة لها وزنها كالمغرب، فما بالك بجيب بريطاني صغير يعيش تحت رحمة بلادهم اقتصاديا!
معلوم أن "فوكس" قد أوشك في الانتخابات الماضية أن يصل إلى السلطة بالتحالف مع "الحزب الشعبي" المحافظ، وهو الآخر يعزف على الوتر القومي مطالباً بالسيادة على جبل طارق. ويعزّز اليمين المتطرف نفوذه في الأندلس المتاخمة للمنطقة.
هذا الخطر الداهم، الجديد نسبياً، لم يقنع جيب جبل طارق بتعديل موقفه التقليدي. فهو تمسك دوماً في لندن بانتماء بريطاني لا يبدو واقعياً. وظل يرفض حتى فكرة شراكة اسبانيا في سيادته التي يريدها أن تبقى بريطانية خالصة!
أنتج هذا الإصرار حالة الاستعصاء التي واجهتها المفاوضات بين المملكة المتحدة واسبانيا، بمشاركة الاتحاد الأوروبي، بحثاً عن مخرج من الورطة التي زج البريكست جبل طارق فيها. فقد حوله منذ 2020 إلى جزيرة أجنبية معزولة ضمن بحر أوروبي.
وتمخض البحث البطيء، عن صيغة لم يعلن عنها رسمياً، وتتمثل في انضمام الجيب الى منطقة شنغن ما يجعل الانتقال بينه وبين اسبانيا حراً. إلا أن ذلك يستدعي وجود شرطة اسبانية في مطار جبل طارق لضبط الأمن فيه باعتباره سيكون جزءاً من الحدود الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي/ منطقة شنغن. لكن الجيب يرفض ذلك لأنه سيمسّ بسيادته البريطانية.
بيد أن هناك تطورات تتطلب مرونة أكثر من الأطراف كلها، وخصوصاً جبل طارق. أولاً، سينتهي العمل بالإجراءات المؤقتة لعبور الأفراد والبضائع في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وسيحل محلها نظام آلي يفترض به أن يكلف الراغبين بدخوله أو الخروج منه مزيداً من الوقت والمال أيضاً. كما ستتعقد حركة البضائع منه وإليه، وسيصعب وصول نحو 15 ألف من العمال الاسبان الذين يعبرون بوابات الجيب يومياً ويمثلون "شريان الحياة" لاقتصاده. وقد بدأت الحكومة الاسبانية إعداد العدة لبدء العمل وفق النظام الجديد.
وثانيا، بات التوصل إلى توافقات أقوى ممكناً الآن، ولاسيما أن الحكومة الاسبانية التي يقودها الحزب الاشتراكي ستتفاوض مع حكومة لها اللون السياسي ذاته في لندن. وأعرب مانويل ألباريس وزير الخارجية الاسباني عن تفاؤله بعد اجتماعه الأول التمهيدي مع ديفيد لامي نظيره البريطاني معلناً أن "المفاوضات سيجري استئنافها من حيث توقفت" بسبب انتخابات المملكة المتحدة.
الواقع أن جيب جبل طارق كان يعتمد دوماً على بريطانيا اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً. وحتى بعدما أفُلت شمسها، ظلت تسهر على خدمة مصالحه من منابر الاتحاد الأوروبي. غير أن هذا صار من ذكريات الماضي. ولم تحترم لندن ولاءه، خصوصاً حينما خالفت رغبة أكثر من 90 في المئة من أبنائه بانسحابها من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك لايزال يتمسك بسيادتها التي لا تغني أو تسمن من جوع.
فما هو سر عقدة السيادة البريطانية التي تعرقل نزع فتيل أزمة تنذر بمزيد من التفاقم؟
إن لهذه السيادة جذوراً عميقة في ثقافة جبل طارق. ولعلها توقظ الحنين لأيام كان فيها مرتكزاً عسكرياً للإمبراطورية التي انتزعته من اسبانيا في أوائل القرن الثامن عشر وأطلقت عليه اسم "أسد المضيق". ومن جهة أخرى، لا بد أن خوفه من مدريد، التي هاجمته سابقاً كما حاصرته في عهد الجنرال فرانكو لعقود بغرض فرض سيادتها عليه بالقوة، يساهم في جعله حريصاً على الاحتفاظ بهذه السيادة.
ومن غير المستبعد أن الانتماء إلى دولة لها ماضي بريطانيا ساهم في خلق شعور لدى أبناء جبل طارق بالتفوق على جيرانهم. لذا ربما كان في الجيب من يحسون بأنهم أفضل من الاسبان، أبناء الدولة التي اعتادت كبريات الدول الغربية أن تسميها في القرن الماضي "بنت العم الفقيرة".
وبالفعل، كانت هناك ادعاءات بوجود ممارسات عنصرية حيال العمال الإسبان والمغاربة، شجبتها حكومة الجيب. كما نددت بمعاداة السامية المزعومة دفاعاً عن النائبة مارلين حسن ناهوم، ابنة أول رئيس للحكومة المحلية، جوشوا حسن، المغربي الأصل الذي كان صهيونياً كابنته الكبرى فلور حسن ناهوم عضوة حزب "ليكود" التي تشغل حالياً مركز نائب عمدة القدس المحتلة.
في هذه الأثناء، نُقل عن لامي قوله إن حل عقدة جبل طارق في أعلى سلم أولوياته. وهذا مفهوم لسببين، أولهما أن الحصار الخانق على الجيب بات احتمالا حقيقياً، والثاني هو رغبة لندن في فتح صفحة جديدة مع بروكسل وهذا لن يكون ممكناً قبل التوصل إلى تسوية مع مدريد بشأن الجيب. لذا تأمل بريطانيا أن تساعده في التغلب على أزمة الثقة مع اسبانيا.
من حق جبل طارق أن يسعى إلى تسوية تحمي مصالحه. لكن لابد له أن يكون واقعياً ويدرك أن موازين القوى مع اسبانيا، والاتحاد الأوروبي، ليست في صالحه. ويواجه جبل طارق اختباراً لمدى قدرته على حماية "شريان حياته" الاقتصادية وعدم عرقلة جهود بريطانيا لإعادة الدفء إلى علاقاتها مع أوروبا. فهل ينجح؟