عاد آندريه أغاسي، نجم التنس الأميركي، إلى داره مُتوّجاً بلقب "ويمبلدون"، وهي إحدى أهم وأعرق البطولات، عن عام 1992، فكان في استقباله والده الصارم، الذي فرض عليه نظاماً عسكرياً للتدريبات منذ طفولته، وطالبه بالكمال دائماً، ولم يتساهل مع أي إخفاقٍ من جانبه، وعرّضه لكمٍ مهولٍ من الضغوطات. عاد آندريه، فعوضاً عن "ألف مبروك" ومشتقاتها، أو "رفعت رأسي"، نظر إليه والده وهو يحمل كأسه الغالية للمرّةٍ الأولى، وسأله مستنقصاً: "لماذا خسرت المجموعة الرابعة في النهائي؟".
أشعر بالحاجة إلى التنويه إلى أن أغاسي كان آنذاك المصنّف أول على العالم بأسره، وحافظ على المركز 101 أسبوعاً متواصلاً، ثم مضى ليكسب 60 بطولةً في مسيرةٍ حافلةٍ بالإنجازات، ويدوّن اسمه كأحد أساطير التنس.
لكنه يعترف في سيرته الذاتية بأنه فيما كان يتربّع على عرش اللاعبين، ظلّ يتساءل: "يا للهول، قد لا أكون جيداً بالقدر الذي أظنه". وهو يصف تلك الفترة الرائعة والسوداوية في الآن ذاته من حياته، فيقول: "تعتقد بأن كونك الأول على العالم سوف يملأ الفراغ بداخلك، (لكني) شعرت باللاشيء".
مع كل خبرٍ محزنٍ في وطننا العربي عن انتحار طالبٍ بالتزامن مع امتحانات الثانوية العامة، أو بعد صدور نتائجها، أتذكّر أغاسي. نعم، لقد كان متأبطاً المضرب لا الكتاب، وكانت مدرسته الملاعب المستطيلة، لكن الضغوط والقسوة والمعايير المستحيلة التي جعلت أغاسي يدمن المخدرات، ويعاني الاكتئاب والشك في الذات، بل ويكره التنس، سرّ شهرته ومصدر رزقه، "بعنفوانٍ سرّيٍ خبيثٍ"، هي ذاتها التي تدفع الطلبة لشرب السمّ والقفز من النوافذ.
بوسعي الآن أن أشرع في مونولوغ عن كيف أن نتيجةً لعينةً لامتحانٍ ما لم تكن ولن تكون أهم من صحة هؤلاء اليافعين النفسية، وسعادتهم، وراحة بالهم. لكني أشعر بأن الجميع سيكتفي بالإيماء برأسه موافقاً، ويتجاهلني.
ربما لأننا نعتقد أن الجحيم الذي نفرضه على هؤلاء الطلبة "سينتهي" بدوره، أسوةً بالمرحلة الدراسية. ربما نتصوّر بأنهم "سيتخرّجون" من الضغوطات والتوبيخ والتضييق والانتقادات والاستصغار، أو نتخيّل بأنهم سيغادرون قاعة الامتحانات، ومثلما ستتبخّر الإجابات التي حشوا بها رؤوسهم عبثاً، فستتبخّر أيضاً رواسب المعاملة التي تكبّدوها في سبيل تسليم ورقة الامتحان تلك.
ربما نبرّر ما نقترفه في حق هؤلاء الطلبة، والذي يصل إلى الضرب والحبس والإهانات والحرمان المادي، متصورين بأنه حينما ستندلع "الناجح يرفع إيده" بصوت عبدالحليم حافظ من مكبرات الصوت، فإن آثار الإساءات سوف تتساقط من نفسياتهم ولاوعيهم، ليرجعوا "صاغ سليم".
سأسلّم جدلاً بأن النجاح الأكاديمي أمر غير قابل للتفاوض، وضرورة لا يستقيم دونها عماد حياة المرء.
إذاً، ألسنا نخاطر حتى بتدمير العباقرة، والمتفوقين، والأوائل المتصدّرين لنتائج الثانوية العامة؟ ألسنا نخاطر بصنع "أغاسي" جديد في كل منهم، يمقت ما يبرع فيه، ويشعر بالخواء، ويقتنع – متأبطاً كلٌّ شهاداته العليا - بأنه ليس سوى فاشل تافه؟