يُحكى في المرويات الروحانية الشرقية عن راهبين: راهبٌ كبير، تمرّس طويلاً في المعابد القصيّة، وراهبٌ صغير ما زال في أول طريق الحكمة. كانا مرةً يسافران معاً، وفي لحظة ما، وصلا إلى نهر ذي تيار قوي. وبينما كانا يستعدان لعبور النهر، رأيا امرأة شابة وجميلة جداً تحاول أيضاً العبور. سألت الشابة عمّا إذا كان بإمكانهما مساعدتها في العبور إلى الجانب الآخر. تبادل الراهبان نظرة إلى بعضهما بعضاً لأنهما كانا قد أقسما في المعبد قبل سلوك الرهبنة على عدم لمس أي امرأة. فجأةً، ومن دون أن ينبس ببنت شفة، حمل الراهب الأكبر المرأة وعبر بها النهر، ووضعها برفق على الجانب الآخر، وأكمل رحلته. لم يستطع الراهب الأصغر سناً أن يصدّق ما حدث للتو. وبعدما عاد إلى رفيقه، كان عاجزاً عن الكلام، ومرّت ساعة من دون أن يتبادلا كلمة. مرّت ساعتان أخريان، ثم ثلاث، وأخيراً لم يتمكن الراهب الأصغر من تمالك نفسه، فقال: أنت راهب، فكيف يمكنك أن تحمل هذه المرأة على كتفيك؟ فنظر إليه الراهب الأكبر وقال: لقد وضعتُها على الجانب الآخر من النهر، منذ ساعاتٍ، فلماذا ما زلتَ تحملها؟
يحمل الإنسان ماضيه الذي يكبّله، حتى بعد أن يقطع نهر الزمن الجاري. وكلّما قطع نهراً زاد الحِمل على ظهره أثقالاً. ولا ينطبق ذلك على الأفراد فحسب، بل ينسحب على المجتمعات والبلدان. وكم هي كثيرة المجتمعات التي ما زالت تجرّ ماضيها الثقيل وراءها، وتجعل منه حاكماً لحاضرها في محاولة لإصلاحه، فلا تُصلح الماضي ولا تكسب الحاضر، وتبدّد المستقبل هَباءً منثوراً.
هذا ما يجري في تونس، مثلاً، منذ أعوامٍ بلا لاجم. يبحث الجميع عن شرعية في الماضي. السلطة التي رفعت شعارات الرفاه والحرّية عالياً تبحث عن شرعيتها في الماضي. ماضٍ يتعلق بالدولة ذات الصوت الواحد والقائد الواحد، وماضٍ يتعلق بالمنظومة الحزبيّة التي حكمت قبلها وما خلفته من فسادٍ وخراب. تَعِد الناس بإعادة أمجاد الماضي الأول، وطمس الثاني، ومعارضةٍ كانت في السلطة، تبحث عن شرعيّة العودة في ماضيها الخاص الذي تعتبره نموذجاً للديموقراطية والحرّية، حتى وإن كانت منزوعة الخبز والرفاه. في مقابل هذا الصراع الزمني الخيالي، يسيطر البؤس بكل معانيه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حاضر الناس. إن البحث عن شرعية في الماضي تكشف عن خسارة الحاضر، وذلك ما يحدث اليوم، حيث خسرت السلطة، من دون أفق في كسبها مرّةً أخرى، فعادت إلى الماضي لمحاربته، لا قصداً للعدالة، بل كسباً للزمن. كما خسرت المعارضة معركة الحاضر عندما كانت في الحكم، وعندما عجزت عن التغيير، فعادت إلى الماضي لتحقّق انتصاراتٍ وهمية. لكن، ماذا ينتفع الإنسان لو ربح الماضي كله وخسر حاضره؟
في أغلب التجارب الشعبوية حول العالم، يوجد هوسٌ بالماضي. الجميع يحارب نوعاً من الماضي ويجرفه الحنين إلى نوعٍ ثانٍ. قبل عام، أقام حزب "فوكس" الشعبوي الإسباني مهرجاناً. وخلال الاحتفالات، أرسلت شخصيات شعبوية يمينية، بما في ذلك دونالد ترامب وجورجيا ميلوني وفيكتور أوربان، رسائل فيديو إلى الجمهور. وفي الحدث نفسه، قدّمت فرقة "لوس ميكونوس" أغنية افتتاحية عنوانها "سنعود إلى عام 1936"، في إشارة إلى العام الذي أطلق فيه فرانكو الانقلاب الذي بدأ الحرب الأهلية الإسبانية. يطلق الباحث التركي المتخصص في دراسة الحنين السياسي في نظام الرئيس أردوغان، إزجي عليّ، على هذه الظاهرة اسم هوس الحنين الجماعي لدى الناس، والذي – بحسب رأيه - يتوافق مع الحنين إلى زمن ما قبل الانحدار المجتمعي؛ زمن يتميّز باليقين والأصالة.
وعلى النقيض من الحنين الشخصي الذي يستحضر الذكريات الفردية، فإن الحنين الجماعي مرتبط بالهويات الاجتماعية والأحداث والأشياء المرتبطة بهذه الهويات. وتكمن أهميته في قدرته على تعزيز استمرارية الهوية خلال أوقات التهديد الجماعي. لذلك، تجد القيادات الشعبوية الفرصة مؤاتيةً لمزج هذا الحنين بخطاب سياسي يستغل بؤس الحاضر ويعد بالعودة إلى الجنة التي كانت، إلى ذلك العصر الذهبي الذي لم يكن ملوثاً بالنخب الفاسدة والليبرالية. فهذا التداخل بين الحنين والشعبوية ظاهرة معقّدة اكتسبت أهمية كبيرة في السياسة المعاصرة. وسواء كان ذلك من خلال استغلال الحنين الجماعي من جانب الزعماء الشعبويين أو الاستخدام الاستراتيجي للماضي من جانب الأحزاب السائدة، فإن تأثير الحنين في تشكيل السرديات السياسية لا يمكن إنكاره.
وعلى نحو غير مسبوق، هناك حالة استيلاء سياسي على التاريخ وعلى وظيفة المؤرخ. وعلى عكس التاريخ الذي يسمح لنا باستكشاف صورة متكاملة للماضي من خلال الفرضيات والتعديلات، تجعلنا نفكر في العلاقة بين الماضي والحاضر، لا كمجموعة ثابتة من الحقائق الواقعية التي تتحرك نحو خط تطويري مستقيم، فإن دور السياسيين ليس محاولة توظيف جزء من الماضي لخدمة حاضرهم فحسب، بل أحياناً يكون اختلاق ماضٍ لم يكن أبداً. لكن، عندما ينوي المرء ألّا يحمل ماضيه، ويمضي قدماً للانشغال بحاضره وإعادة التاريخ إلى المؤرخين، ونزعه من يد الساسة، فذلك لا يعني أبداً أنه تخلّى عنه، لكنه قرّر ألاّ يُنصِّبهُ حاكماً للحاضر. يثبته في خزائن التجربة، التي يستمد منها قيماً أو حكماً أو صوراً أو دروساً، تفيده في الحاضر.