بعد نحو أسبوع من عودته "البوليسية" إلى برشلونة حيث ألقى خطاباً في حشد من أنصاره وقفل عائداً إلى منفاه البلجيكي، كتب رئيس كتالونيا السابق كارليس بوتشيمون (61 عاماً) عن تجربته تلك. كان من المتوقع أن يبوح الزعيم الانفصالي ببعض أسرار تلك الزيارة التي شبهها بعضهم بمغامرات أرسين لوبين، بطل القصص البوليسية الفرنسي. وقيل إنها كانت محفوفة بالأخطار، نظراً إلى أن الرجل عملياً هارب من وجه العدالة منذ نظم استفتاءً غير قانوني على استقلال بلاده في 2017.
لكن المناضل العنيد، لم يكشف عن الكثير من تفاصيل تحبس الأنفاس عن رحلته وهروبه فيما كانت الشرطة تبحث عنه وتقيم الحواجز لاصطياده. واكتفى بالقول إنه ببساطة غادر البلاد وهو يجلس في المقعد الخلفي لسيارة خاصة ولم يختبئ في صندوقها كما أُشيع.
وسوى ذلك، قال الكثير في معرض التشديد على مواقفه التقليدية المناوئة لإسبانيا. إلا أنه لم يتوقف كثيراً عند إخفاقه في تحقيق هدفه المعلن قبل الزيارة، وهو تعطيل تنصيب الاشتراكي سلفادور إيلا رئيساً جديداً لكتالونيا تنتهي معه مرحلة الحكومات الانفصالية التي أدارت الإقليم لعقود. والواقع أن النائب "الضيف" لم يدخل حتى البرلمان، ناهيك بمحاولة إعاقة انطلاق عهد أكثر انفتاحاً. واستفاض في الحديث عن تصميمه على العودة التي كان قد كشف عن توقيتها وبرنامجها ومكان وجوده خلالها سلفاً.
وهذا يوحي بأن الهدف الحقيقي ربما كان تسجيل هدف واضح في مرمى السلطات الإسبانية لأنها عجزت عن الإمساك بشخص مطلوب من ناحية، وتأكيد شجاعته وإقدامه وتصميمه، من ناحية أخرى! لم يكن هناك، كما يبدو، هدف استراتيجي يبرر قيامه بمجازفة تم تصويرها على أنها بالغة الخطورة.
واشتكى زعيم حزب "معاً كتالونيا"، من مظالم أشار إليها سابقاً، لجهة استهدافه المزعوم من القضاء، ومصادرة حقوقه ومحاربته من قبل مدريد. وهو يدعي أن حكماً لم يصدر في حقه، لكنه لم يمثُل أمام المحكمة التي سعت إلى استجوابه بشأن اتهامات بإساءة استعمال المال العام حين كان يحكم بلد الـ8 ملايين إنسان. وتقول الحكومة إن هذه التهمة هي التي حرمته من الاستفادة من العفو عن المتورطين في تنظيم استفتاء 2017 على الاستقلال، أسوة برفاقه.
وبصرف النظر عما أراده السياسي الانفصالي من زيارته القصيرة، لربما سجل عبرها هدفاً في مرماه هو لا في مرمى رئيس الوزراء بيدرو سانشيز الذي أثبت أنه أكثر دهاءً. فهي أدت إلى تسليط الضوء من جديد على أزمة الانفصاليين، ولا سيما اليمينيين مثله، مع اضمحلال نفوذهم المتزايد في برشلونة. ويبدو أنه لم يستطع الإفلات من الاعتقال والعقوبة بفضل شجاعته أو جرأة أنصاره، بل لأن سانشيز وفر له ذلك، ولو بطريقة غير مباشرة.
وطبقاً لأحد التفسيرات الرائجة، لم يرغب سانشيز في إثارة أي ضجة، لذا تركه يستعرض عضلاته ويمضي عائداً إلى منفاه من دون أن يعطل التنصيب التاريخي أو يتسبب في قطيعة بينه وبين نواب "كتالونيا معاً" السبعة باعتقال زعيمهم. فهو في حاجة ماسة دوماً إلى أصواتهم التي يعطونه إياها بموجب تفاهم بينهم.
وكان سانشيز قد سجل هدفه الأول ضد الرئيس السابق حينما توصل إلى هذا التفاهم مع حزبه. وهو ينص على تصويت نوابه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لمصلحة الحكومة الائتلافية الجديدة، وبالتالي مساعدته في البقاء على رأس السلطة، مقابل العفو عن المطاردين بسبب المشاركة في استفتاء 2017. وفعلاً أُطلق 9 من القياديين بيد أن بوتشيمون "خرج من المولد بلا حمص"، إذ بقي مطلوباً للعدالة!
والحق أن انتصاري سانشيز لم يتحققا من فراغ. أسهم الحزب الانفصالي تتراجع، إذ جاء الثاني في انتخابات البرلمان المحلي بعد فوزه بـ35 مقعداً (من أصل 135) الماضي بينما خسر واحداً من مقاعده الثمانية في البرلمان الوطني واثنين من مقاعده الثلاثة في البرلمان الأوروبي. وهذه الخسائر حملت "معاً كتالونيا" على المضي نحو مزيد من المركزية.
وفي كل الأحوال، قد لا يختلف كثيرون على شجاعة الزعيم الانفصالي وثبات مواقفه. أما الحكمة والذكاء السياسي، فهذان شأن آخر. ويأخذ عليه مراقبون شعوره العميق بأهميته. وهو يتفاخر في مقالته الأخيرة بقدراته وعزيمته. كما يكرر فيها الشكوى، التي أوردها في الماضي، من الظلم المزعوم الذي تعرض له. ويرفع صوته احتجاجاً على انتخابات تمت بطرق ديموقراطية لا لبس فيها، سوى أن نتائجها جاءت كما لا يحب بوتشيمون. ولهذا، شبهه البعض بدونالد ترامب، "الضحية" الذي لا يزال يصر على أن الفوز في انتخابات 2020 سُرق منه!
لا شك في أن كثيرين في إسبانيا وكتالونيا يشعرون بارتياح إلى عدم فوز "معاً كتالونيا" بالمركز الأول في انتخابات أيار (مايو). فلو هيمن الانفصاليون، لتعرض المهاجرون للتمييز أكثر مما يعانونه سلفاً على يد أبناء الإقليم المتعصبين لقوميتهم. كما ستصبح العلاقة مع مدريد شغل برشلونة الشاغل، مع أنها تأتي في المرتبة الخامسة بين أولويات الغالبية الحريصة أولاً على فرص العمل والمواصلات، والصحة، والتعليم، والجفاف وغيرها من الأزمات الضاغطة.
إن بقاء كتالونيا جزءاً من إسبانيا، مع التمتع بحق تسيير بعض الأمور المحلية، هو الخيار الديموقراطي. كما أن توحيد صفوفهما سيجعلهما أقدر على مقارعة الصعوبات الاقتصادية والبيئية وغيرها. لم تعد الأجندة الانفصالية رائجة في إسبانيا المؤلفة من خمس أمم متعايشة، ولا في اسكتلندا حيث كانت الأمة الواحدة محتارة في شكل علاقتها بالدولة الاتحادية الأم التي تجمعها بثلاث أمم أخرى. وحبذا لو تبقى كتالونيا إلى جانب الأمم الأربع الأخرى، فالعزلة طلباً للنقاء القومي أو العرقي أو الديني لا طائل منها كالبحث عن سراب!